أشارت بعض الصحف المحلية إلى أن الخلافات بين رجال دين مسلمين يمثلون مذاهب فقهية متنوعة أجلت صدور توصيات (المؤتمر العالمي للرقابة على الأغذية الحلال ) الخبر مرق سريعاً ولم تسلط عليه الكثير من الأضواء ، والسؤال هنا ليس هل كل طعام مذبوح حلال هو صالح للاستعمال الآدمي ! ؟ فهذا السؤال أرجعه للأطباء ومختصي التغذية فهم وحدهم الذين باستطاعتهم فك الاشتباك بين الديني والعلمي لصالح المستهلك .
ولكن ما استوقفني أن خلاف المذاهب الفقهية في المؤتمر أوقف التوصيات ، أي جميع المجهودات وأوراق العمل والاستعدادات والترتيبات خرجت بلا طائل أو نتيجة ، أي أن الخلافات الفقهية بين المؤتمرين بلغت من العمق والتنافر والحدة إلى الدرجة التي تمنع حتى الوصول إلى صيغة توافقية بسيطة تستوعب جميع الأطراف وتستثمر التعدد والغنى في الأراء لخلق رؤية مشتركة .
هذا المشهد الذي مرق سريعاً قد يكون مؤشرا على طبيعة العلاقة القائمة بين المذاهب الفقهية في وقتنا الحالي ، ولربما هي مقياس للمناخ الذي تتحرك فيه الآراء والاجتهادات الفقهية الآن ، والذي يبدو بأنه مناخ يقوم على التنافر والتقوقع على المسلمات وإقصاء ونفي الآخر المختلف، هو يحيلنا إلى حالة رعب تتلبس التيارات والمذاهب تجعلها تتوجس بعضها البعض بل وتشيطن مذهب المختلف وتتخوف من دنسه الذي من الممكن أن يخالط مثالية رؤيتها الخاصة .
فهل هناك حالة ارتداد محلية كبرى أمام هجمة قاتمة تقوم على التشنج والتعصب ومحاولة إحياء كل ماهو عنيف وإقصائي ومتخلف في البنية الفكرية المحلية ؟
فبعد خطوات إيجابية ومطردة قطعها المجتمع خلال السنوات الأخيرة برفقة رؤى الإصلاح وبشاراته التي كانت تلوح بقيم التسامح والتعايش وقبول المختلف ورفع سقف الحريات . نجد الآن في المقابل أن المناخ العام بات محتقنا متحفزا بصورة تطغى على مكتسبات الأعوام القليلة الماضية التي تفاءل الجميع بها في مايتعلق بالحوار الوطني والحضاري وأيضا العالمي الإنساني .
هناك غمامة غامقة تطبق رويدا رويدا على المكان ولمسنا ظلالها عبر الإنترنت ، لغة بحمولة ناسفة تلجأ إلى استعداء السلطة في سبيل تصفية الخصوم ، والدفع بالأشخاص كقرابين في أتون صراع التيارات .
فكما كان كتاب الشيخ القرني (لا تيأس) هو أحد الأدوات التي وظفت في تربص التيارات ببعضها البعض والنيل منها وإسقاط رموزها ، كان من جهة أخرى قضية (حمزة كشغري) هي رأس حربة يلتف بها التيار الآخر لمحاولة النيل من خصمه المختلف المناوئ والمطالبة بتصفيته واستعداء السلطة عليه بشكل هستيري ، ودفعه كبشاً دون استنطاق الحادثة التاريخية الموازية والمشابهة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فعندما عاد كعب بن زهير تائباً مستسمحاً بين يدي الرسول خلع بردته عليه وقربه ...فهلا شققتم عن قلبه ؟
بالطبع ماسبق ليس بالاستثناء هناك الكثير من الحوادث التي بدأت ترصف الواحدة أثر الأخرى وترتفع كجدار أمام مسيرة الإصلاح لتؤكد لنا أن الغمامة الغامقة في طريقها إلى التهام منجز سنوات الإصلاح وقهقرة المكتسبات الإيجابية سنوات إلى الخلف .
فعلى سبيل المثال بعدما كنا نفخر بالحلقة الوطنية الملتفة التي كانت ترصع طاولات الحوار الوطني وتحوي جميع المذاهب الوطنية والأطياف الفكرية جميعها على قدر المساواة يتمتعون بسقف الوطن ، بتنا اليوم في المقابل نسمع ونقرأ عن محاضرات في بعض المساجد تسعى إلى تأجيج الطائفية وإيقاظ فتنتها النائمة .
بات مثيرو الشغب وحاملو الفكر المتعصب المنغلق جزءاً من مشهدنا الثقافي سواء في المؤتمرات أو احتفالات مهرجان الجنادرية ، بات هناك حقائب تحوي تهم التخوين والتكفير وطلب حجب الجنسية توزع على البعض ، لن أتتبع جميع المواقف لكن هناك غيمة غامقة تتخلل أجزاء المكان وتستحوذ على جميع ألوان الطيف وتجلياته ، هناك من يختطف منجز الحوار من الوطن .
نقلا عن الرياض