الناظر للواقع الذي تدور رحى معاركه في الساحة السعودية ليهوله حجم العراك والتطاحن على كل صغيرة وكبيرة تستحق ولا تستحق ونزولا من التعامل مع الكليات الفكرية ونقدها إلى التجزئة الثقافية والتصارع على الهامش في الوقت الذي كان لابد من التركيز على نقد المركزيات الثقافية بوصفها محورا تتشكل من خلاله الهوامش الفكرية، وأعني بذلك أن الكثير من السلوكيات اليومية التي نعتبرها هامشا تختزل هي نتيجة مركزيات فكرية تأصلت مع الوقت وأخذت طابع الرمزية الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية والسياسية وغيرها، مما يجعلها تعبيرا عن عالم المثل على اختلاف فيما بينها، وعلى اختلاف المرجعيات الفكرية التي تأصلت من خلالها، أو أنها في حقيقتها، عملية تأصيل متواصلة ومتولدة بعضها عن بعض من خلال عملية تأويل مستمرة ولا نهائية كما هو تصور نقاد ما بعد الحداثة.
وفي تصوري أن تلك المعارك ليست ناتجة عن علاقة صراع أفكار، بقدر ما أنه صراع قوى سياسية، وإن كانت لا ترفع الشعار السياسي، بمعنى أننا لسنا أمام نقد فكرة تجاه فكرة تأخذ طابع النسبية مهما كانت قوتها الترميزية أو الفاعلية العصرية، على اعتبار أن جميع هذه الأفكار ليست في الأخير إلا حلقة طويلة من حلقات الفكر التي لا تنتهي عند حد كونها قراءات متعددة لمختلف السرديات الكبرى سواء كانت دينية أو حداثية أو غيرها، وإنما الأمر عائد إلى مستوى هيمنة الخطابات وتماسها الحركي مع واقعها أو مع تصوراتها ومدى محاولة فرض هذه التصورات على مجمل الخطابات الأخرى حتى لم تعد عمليات التوفيق ممكنة مع هذا الصراع المستميت في الهيمنة.
يشمل هذا الوضع كافة الخطابات الثلاثة الأكبر في السعودية التقليدية والليبرالية والوسطية، على اختلاف في درجات هذه الخطابات فيما بينها من ناحية التأثير والهيمنة، وفي نقد بعضها بعضا أو حتى على المستوى الفكري، والاختلافات داخل كل خطاب منها بحيث تتحول التقليدية إلى أكثر من تقليدية، وتتحول الليبرالية إلى أكثر من ليبرالية، وتتحول الوسطية إلى أكثر من وسطية في حال أزحنا الشحن الجماهيري والهياج الثقافي الذي يتولد من خلال الصدامات التي لم تنته إلا إلى صدامات أخرى لم نعد نرى لها اعتدالا في الحكم فيما بينها، وإنما جل ما يفعله البعض هو محاولة سحق تام لخطاب الآخر بكل السبل المشروعة وغير المشروعة حتى لو كان بتبادل الكذب والتهم، وإن كانت الهيمنة الأكثر هي للخطاب الإسلامي بمختلف أطيافه الداخلية مع صوت أعلى أكثر تشددا ويكاد يلغي صوت الاعتدال.
لقد انتقل الصراع حول الأفكار إلى الصراع حول الخطاب لينزل إلى الصراع حول الأشخاص، وعززت التقنية هذا الصراع أكثر حتى غدت عمليات الحوار التي كنا نظنها أنتجت فاعلية ثقافية حوارية إلى (كذبة رسمية) سرعان ما تلاشت مع أقل الكلمات استفزازا بسبب الاحتقانات التي وصلت مداها في موقع (تويتر) الالكتروني التواصلي من أجل محاولة هيمنة خطاب على خطاب آخر.
الهيمنة الثقافية تجنح إلى خلق مجتمع واحد مع استحالة ذلك، إذ إن طبيعية المجتمعات مختلفة ففيها المحافظ وفيها الأكثر تحررا وفيها البين بين مع هوية عامة مشتركة لكنها تختلف في التفاصيل ولذلك فإن أي محاولة للهيمنة هي مشروع أقرب للسياسي منه إلى المشروع الفكري الإصلاحي مما يجعل عمليات التمرد على الهيمنة حالة طبيعية ولدتها الهيمنة ذاتها وصنعتها بيديها في حين كانت تريد عكس ذلك.
تقلا غ غكاظ