على رغم حرص وزير العدل على إرضاء جميع الأطراف بحنكته وموقعه العدلي الجليل، إلا أن رضا الناس غايةٌ لا تدرَك. فقد يرى طرفٌ أنه بإنصاف الطرف الآخر يبقى حاله على ما هو عليه. في محاضرة ألقاها الوزير في إطار البرنامج التوجيهي الأول لأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الميدانيين بمنطقة الرياض ونشرتها كاملة صحيفة «الجزيرة» يشرح أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو إمام المحتسبين في موقف عملي حين قال للبائع «ما هذا يا صاحب الطعام، من غشنا فليس منا». وهذا ما اتفق كثير منا على فهمه وحتى عمر - رضي الله عنه - حين عيَّن الشفاء العدوية رئيسة للحسبة لتراقب السوق والغش، فأين كنا مخطئين حين أكدنا أن الحسبة هي حماية مصالح الناس، ودفع الضرر عنهم، وليس في ملاحقة تصرفاتهم وخياراتهم الشخصية، إذ لم تتعدَّ على أحد ولا يعاقب عليها سواهم؟
يقول وزير العدل إن غالب عمل الجهات الرقابية هو عمل حسبوي، بل عمل القضاء عمل حسبة، فمن يغيث الملهوف وينصر المظلوم ويردع الظالم وينصف منه، هذا في الحقيقة رأس سنام الاحتساب، إذاً وزارة العدل حسبة، ووزارة التجارة حسبة، وحماية المستهلك حسبة، وهيئة مكافحة الفساد حسبة وكل جهة رقابية كذلك، فما الذي يجعل هيئة واحدة تختزل في هذا العمل وتختص باسم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، تقام من أجلها المؤتمرات ويحرص المسؤولون في كل مناسبة على إطراء دورها، وتبجيل موظفيها والتنديد بكل نقد ضدها دون بقية الهيئات؟ يفسر الوزير أن هذا من باب الحفاوة. وبسبب هذه الحفاوة المسرفة في المديح انتهينا إلى النتيجة التي وردت في محاضرة وزير العدل، فعلى رغم تأكيده حرية الإعلام وضرورة النقد والشفافية إلا أنه اتهم كل من يعترض على عمل الهيئة بأنه إما «مسكون بأفكار دخيلة، أو تصورات خاطئة، أو لشهوة أو شبهة ظاهرة أو خفية يدركها المفتون بها وإما أنه يعيش غمرة عازلة تخادعه فيها نفسه ويختاله شيطانه، أو كتابات تفِد من الخارج يتمُّ الإيهام بأنها من الداخل».
هذا ما كنا نخافه، أن يقودنا تعظيم هيئة من هيئات العمل الحكومي التي هدفها خدمة المواطن وحمايته إلى أن يصبح موظفوها فوق النقد وفوق المحاسبة، وهذا الاتهام بالمناسبة لا يقال ضد من يكتب عن وزارة العدل، ولا عن وزارة التجارة، ولا عن حماية المستهلك، ولا عن هيئة الاستثمار. هذه المؤسسات تتعرض للنقد اليومي ولا يُتَّهم صاحبها بالعمالة ولا بالدخالة ولا بفساد الأخلاق. بل إن أخطاء هيئة ترفع شعار المعروف أكثرُ فداحة من كل هؤلاء لأنها مرتبطة بالشارع، فلا تستطيع أن تخفي مشهد رجل هيئة يخطئ في ملاحقة شاب متهور فيعكس السير، ويعرض حياة الناس للخطر وربما نتج من هذا موت الشاب.
كما أن رجال الهيئة ينتشرون في الطرق، ويدهمون البيوت والاستراحات الخاصة، ويطردون النساء من المحال التجارية بحجة أنهن لا يضعن العباءة على رؤوسهن. لا نحتاج إلى كتابات دخيلة من الخارج لنعرف هذا، فنحن نشاهده بأمِّ أعيننا، ويقع علينا أحياناً وعلى أبنائنا وينتشر بيننا مواطنين ومواطنات.
الإسراف في تبجيل رجال منّا بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون يؤدي بأصحابه إلى الظن بأنهم معصومون ولا عصمة إلا لنبي، ولنا في قصة عمر - رضي الله عنه - عبرة، فلم يتخذ حصانة ضد النقد حين تسلق الجدار على شاربي الخمر، فلاموه بقولهم: «ولا تجسسوا يا عمر».
نقلا عن الحياة اللندنية