التمويل الإسلامي من الناحية النظرية بدأ مع التشريع الإسلامي، الذي جاء كجزء من منظومة متكاملة شاملة للحياة تتناول العبادات والمعاملات والأخلاق، بصورة متوازنة تجعل من التشريعات المتعلقة بالعبادات عبارة عن تعاليم تفصيلية تتناول العبادة فيما يتعلق بأحكامها بجميع تفاصيلها الدقيقة، كما هو الأمر في الصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن كان الميل لعبادة الله أمرا فطريا، إلا أن تفاصيلها، لا يمكن الاعتماد على الفطرة الإنسانية لمعرفة الطريقة الصحيحة لممارستها؛ لذلك كان التشريع يتناولها بالتفصيل.
أما فيما يتعلق بالمعاملات فإن الأصل في التشريع الإسلامي أن يتناول كثيرا منها بصورة مجملة، ويعطي خطوطا عريضة لأحكامها، وذلك لأن التشريع فيما يتعلق بأحكام المعاملات مبني غالبا على حكمة ظاهرة، إذ ليس مقصد الشرع غالبا في مثل هذه المعاملات إبراز جانب الالتزام والانضباط بأوامر الشرع – وإن كانت في نهاية الأمر كذلك، إلا أن المقصد الحقيقي هو تحقيق العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، والموازنة بين حق الفرد من جهة أن ما يحصل عليه هو نتاج لاجتهاده، ومن جهة أخرى حق المجتمع من جهة أنه بصورة عامة لتحقيق المصلحة العامة وعدم الإضرار ببنية المجتمع الاقتصادية.
لذلك فإن غالب الأحكام المتعلقة بالمعاملات المالية انعكاس لحكمة ظاهرة للمشرع، وهي تسعى لتحقيق المصلحة وتوازن بين المصالح والمفاسد، لذلك فإن معظم القضايا المتعلقة بهذه المعاملات نجد أن فيها مصالح ومفاسد والمصلحة تقتضي تغليب أيهما أكثر أثرا، فإذا غلبت المصلحة في المعاملة فإن التشريع يميل إلى إباحتها أو حتى في بعض الأحيان إلى الإلزام بها، أما إذا غلبت المفسدة فإن التشريع يميل إلى تركها والمنع منها، هذه بطبيعة الحال قاعدة عامة لا يمكن إسقاطها بصورتها المجملة على تفاصيل الأحكام دائما، لكن متى ما ظهر الحكم في مسألة فإنه يقينا أن المصلحة العامة تقتضي ذلك.
من خلال تقييم مسيرة التمويل الإسلامي، ونظرا لأن التشريع الإسلامي في المعاملات يحقق مصلحة ظاهرة يمكن أن يشعر بها الإنسان، فإن السؤال عن أثر تطبيقات التمويل الإسلامي في التنمية ومعالجة المشكلات الاقتصادية في المجتمع أمر مشروع، خصوصا أننا نشاهد أن بعض المجتمعات الإسلامية تعاني مشكلات اقتصادية مزمنة، إضافة إلى ضعف في الإنتاجية مقارنة بكثير من الدول في العالم سواء المتقدمة أو الناشئة، إضافة إلى ارتفاع في معدلات الفقر والبطالة، وسوء في التغذية، ومشكلات صحية وتعليمية في بعض الدول وهو انعكاس لسوء الحالة الاقتصادية.
نحن نعلم أن التمويل الإسلامي بدأ منذ بدء الرسالة، لكن التصور الحديث للتمويل الإسلامي بدأ في العقد السابع من القرن الماضي عندما بدأت تجربة أحمد النجار في عام 1963، ثم تلتها مجموعة من التجارب، حيث ركزت هذه التجارب على العمل المصرفي، خصوصا بعد تجربة بنك دبي الإسلامي في عام 1975، ونحن اليوم بعد مرور 50 عاما على إنشاء أول تجربة معاصرة للتمويل الإسلامي، لا نجد تطورا كبيرا لاقتصادات الدول الإسلامية بما يوازي تطورات كثير من الدول في العالم، وبما يعكس ما لديها من ثروات طبيعية وبشرية، وبما يعكس أيضا إرثها التاريخي العظيم، وموقعها الاستراتيجي بين الأمم.
لا شك أن تجربة المصارف وما تبعها من تطورات لاحقة لم تحقق التنمية الحقيقية وإن كانت في حد ذاتها ليست عبارة عن مشاريع سلبية على المجتمع، إنما يمكن أن نصفها بأنها تجربة ناقصة بسبب أنه لم يوجد التكامل في مكونات الاقتصاد الإسلامي، إذ إن التجربة حتى تكتمل لا بد أن تكون هناك استراتيجية لبناء إمكانات الموارد البشرية، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، وبناء قاعدة إنتاجية صناعية وزراعية وخدمية يجعل من إنتاجية الفرد تفوق احتياجاته وهذه هي المعادلة البسيطة للاقتصاد الإنتاجي، بعد ذلك تكون المصارف والقطاع المالي بصورة عامة رافدا للقطاعات الإنتاجية ومعززا من نموها، كما أن المصارف اليوم ما زالت بعيدة نوعا ما عن المشاركة الحقيقية في القطاعات الإنتاجية، إذ إن ممارسة عقود مثل عقود الشركة أو المضاربة من شأنها أن تعزز دور المؤسسات المالية الإيجابي، وتؤسس لبناء مشاريع تنموية في المجتمع، وتملأ الفجوة الموجودة في المجتمعات الإسلامية وهي غياب رأس المال الذي يعزز إمكانات الموارد البشرية، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، وإلا سيبقى دور التمويل الإسلامي ضعيفا في تعزيز تقدم المجتمعات الإسلامية التنموي.
الخلاصة .. التمويل الإسلامي رغم أنه حقق نموا كبيرا خلال الفترة الماضية إلا أن أثره في التنمية في المجتمعات المسلمة ضعيف لغياب التكامل في مكونات الاقتصاد الإسلامي، وضعف دور المؤسسات المالية الإسلامية الإيجابي الذي يعتمد على عقود مثل عقود المشاركات والمضاربة.
نقلا عن الاقتصادية