الأفكار تستقر بفعل عملية ذهنية لا يمكن تفكيكها إلا من خلال ذات العملية.. بل إن الأفكار طالما لا تروج شقاً للصف أو استعداء على النظام.. فهي جزء خاص وممتنع إلا من خلال أدوات بناء الأفكار ذاتها..
ما زالت التطورات في المنطقة العربية تشير إلى مخاطر كثيرة. انكشاف واسع على أزمات واختناقات ونزاعات وتهديدات. لا يكاد يخلو بلد عربي من نزاعات وصدامات، اقتصادات متردية، وزيادة في كلفة الحياة.. توترات اجتماعية وصراعات سياسية وعسكرية وجماعات إرهابية.. بلدان مزقتها الحروب وصنعت أكبر مأساة لإنسانها في القرن الحادي والعشرين. هل من المبالغة أن يقال إن العالم العربي أصبح اليوم الجزء الحزين من هذا العالم؟
سمات التردي طالت الإنسان. المثقف العربي صار شريكاً في هذه المأساة. وإذا كان ثمة ظاهرة لافتة في هذه المرحلة.. فهي تلك الجرأة غير المسبوقة على توزيع الاتهامات جزافاً، وصناعة العداوات مجاناً، وتلبيس الحق بالباطل والباطل بالحق.. وزراعة الشكوك وبث التأويلات.. حتى صار شعار «من ليس معي فهو ضدي» التجسيد المؤذي في حيز ثقافي لم يعد يتورع عن الاصطياد في الماء العكر.. وما أكثر مياه العرب العكرة، وما أقل صفاءها وشفافيتها واستلهامها لمعنى الحياة والاحياء بكل تعدديتها وتنوعها ورؤاها. ومن يشارك في حفلة الغطس في البحيرة العكرة حتماً سيلقى كثيراً من الشباك والمصايد.. منها ما صنعته يداه، ومنها من أجاد حبك شراكة خصوماً معلومين أو مجهولين.
أدرك الغرب بعد صراعات طويلة ودماء وحروب وأشلاء، أنه لا يمكن أن يعيش ويقوى ويسود إلا من خلال نظام مختلف. فهندس نظاماً سياسياً وحقوقياً وتعليمياً وقانونياً يحمي التعددية في الأفكار والرؤى والتكوين.. طالما كان الانتماء للوطن المظلة التي تسع الجميع بالخضوع للقانون والنظام.
وبينما يجدُ الآسيويون اليوم في طريق تأسيس نظم مواكبة وقابلة للحياة والنماء وتحقق تقدماً مضطرداً.. وبينما يعد المستقبل بعض الدول الأفريقية بالمزيد من تحسن شروط الحياة تحت سقف الاعتراف بالجميع قبائل وشعوباً وطوائف تتعدد لغاتها وتتباين طريقة حياتها ومفاهيمها على نحو يبدو بعضه من عجائب الزمان وأسرار المكان.. وبينما تتعلم دول أميركا اللاتينية من الدروس القاسية، وتعيد تشكيل نظمها على نحو يستجيب للتحديات التي تواجهها، يظل العرب الذي طرقت المدنية أبوابهم قبل قرابة القرن يتراجعون بمسافات مذهلة.
يتراجعون على كل الصعد، تراجعاً أفقد الإنسان العربي الشعور بقيمته حتى أصبح الفارق بين الموت والحياة في بعض البلاد العربية المنكوبة بالحروب المدمرة، مجرد خيط رقيق باهت لا يكاد يراه المتوقف عند معنى البقاء في بلدان القهر والفقر والجوع وصراع الطوائف.. التي لم يسلم منها شجر ولا حجر، ناهيك عن إنسان يكفكف ما بقي له من دمع في مخيمات التشرد والإذلال.
وبفضل الإذلال، وخراب الضمير، وتهاوي القيم، صار الإنسان العربي أقل قيمة ممن سواه، فلم تشفع له حضارة غاربة ولا صراخ متواصل في بلاد اللجوء: إني هارب من جحيم بلادي فلا تجعلوني هنا رهن الاعتقال الدائم باسم الخراب هناك. أليس هذا بعض الواقع المؤلم اليوم؟
وإذا كنا نرى الخراب في بلدان الجوار، والتدمير المستمر لقوى الإنسان هناك.. أليس جديراً بنا أن نحافظ على بلادنا من هذه الثقوب والشقوق التي يبرع البعض في توظيفها لإحداث المزيد منها؟
لا تنتزع الأفكار من الرؤوس بالزجر.. ولا يجمع الوطن فرز هنا وإقصاء هناك.. الأفكار تستقر بفعل عملية ذهنية لا يمكن تفكيكها إلا من خلال ذات العملية.. بل إن الأفكار طالما لا تروج شقاً للصف أو استعداء على النظام.. فهي جزء خاص وممتنع إلا من خلال أدوات بناء الأفكار ذاتها.. والأفكار لا تعبر عن نفسها وتظهر للعلن إلا من خلال الشعور بالقبول بمبدأ التعبير عن الذات المفكرة أو المعتنقة للفكرة.. وهنا يأتي دور الحوار الحقيقي الفاعل المنتج للوصول إلى مشارف صيغة تحفظ للجميع حقهم في فحص الأفكار وتقويمها.. طالما أنها في سياق لا يهدم وطناً ولا يشتت شملاً ولا يحدث خرقاً ولا يمارس عنفاً، ويؤمن بالمشتركات الكبرى بين أبناء الوطن الواحد.
الفرز الساذج والمقصود به الإدانة على الدوام.. يلتقطه كثير ممن لا يدركون حتى مفاهيم أولية بسيطة حول التصنيفات التي يتعلقون بها.. ليساهموا في نشرها بين أقرانهم أو مجتمعاتهم التي لا تقل جهلاً عنهم.. حتى تصبح الكلمة إدانة والتهمة جاهزة.. وهنا نكتشف خطورة الانسياق في حفلة توزيع الاتهامات، وغالباً لا يراد منها إلا تصفية الحسابات على حساب ما هو أهم وأبقى.
من الطبيعي ومن المفيد أن يكون ثمة تعددية في الفهم والتحليل وقراءة الأحداث.. وهذا يغني ويفتح مجالاً أوسع للرؤية مهما اختلفت المواقف.. ولن يكون هذا محال شقاق أو هتك لنسيج وطن متماسك طالما ظل في حدود الرأي والكلمة.. واحترام الآخر والالتزام بالقانون والنظام والحفاظ على كيان الدولة والمجتمع.
الوطن أمانة.. لا تعرضوه للمخاطر، وهو بحاجة لجهد وعطاء أبنائه.. حذارِ أن تضعفوه أو تدفعوه ليكون جزءاً من هذا العالم الحزين!!
نقلا عن الرياض