تنوي هيئة سوق المال طرح برنامج ادخار للمواطنين كإحدى الخطوات التي تستهدف تطوير السوق المالية. وهذا البرنامج يهدف إلى تنمية الثقافة المالية وبالخصوص ثقافة الادخار في المجتمع السعودي، حسبما ذكر الخبر في صحيفة "الجزيرة" مطلع هذا الأسبوع.
ونحن نعرف أن وظيفة هيئة السوق المالية تتمثل في السعي إلى إيجاد سوق مالية فاعلة وعادلة وشفافة ومتطورة؛ وتحقيق الحماية للمستثمرين من الممارسات غير العادلة، أو غير السليمة، أو التي تنطوي على احتيال أو غش أو تدليس أو تلاعب. وذلك عن طريق الإفصاح الكامل عن المعلومات المالية والجوهرية المتعلقة بالأوراق المالية والشركات المصدرة لها، والإفصاح الكامل عن جميع المعلومات في نشرات الإصدار الخاصة بطرح الأوراق المالية. إضافة إلى إتاحة المعلومات الخاصة بالأسعار والإفصاح عنها في الوقت المحدد. تسهم هيئة السوق المالية في حماية المستثمرين الأفراد من مخاطر القيام باتخاذ قرارات استثمارية لا تقوم على معلومات صحيحة، أو تكون مبنية على معلومات مضللة أو ناقصة من خلال تحديد نوعية المعلومات الواجب توفيرها، وفرض نشرها.
ووفقا لهذه المهام لم نر من ضمنها مهمة تنمية الادخار، فلماذا تريد أن تقحم نفسها في هذا الجانب؟ كما أنها لم تتقن مهامها الجوهرية فكيف تضيف لها أعباء أخرى. كما أن طرح الهيئة هذا البرنامج (تنمية الادخار) حتى يصبح ثقافة ـــ كما ذكرت الهيئة - يدل على أن الهيئة خالية من الخبرات ولا تدري ما الذي يحدث في الواقع وبعيدة كل البعد عن التطورات المالية والاقتصادية والخلط بين المفاهيم والمصطلحات بل العصر الذي تعيشه.
نحن نعرف كمتخصصين أن مفهوم الادخار لم يعد فعالا في عصر المعلومات (العصر الذي نعيش). فمصطلح الادخار كان له معنى ويؤدي وظيفته في العصر الصناعي عندما كان المال مالا. فالمال في عصر المعلومات لم يعد مالا عندما تم فصل العملات عن الذهب حتى أصبحت العملات نقودا إلزامية تغذي الاقتصاد العالمي هذه الأيام. وأول من قام بهذا الفصل الرئيس الأمريكي "نيكسون" عام 1971 عندما فصل الدولار عن الذهب فأصبح الدولار نقودا إلزامية. والنقود الإلزامية ــــ كما بين ذلك المؤلف "كيوساكي" ـــ هي أوراق يتم تحويلها إلى نقود عن طريق قيام الحكومات بتحول قطعة ورقية إلى نقود تتم طباعتها بإشراف البنوك المركزية ويمكن هذه الأيام إنجاز ذلك بنبضة إلكترونية.
وبناء على تحويل النقود من نقود حقيقية يطلق عليها "نقود احتياطية جزئية" إلى نقود إلزامية حد أمران: زيادة الضرائب وزيادة التضخم. عندما تقوم الدول بطباعة النقود الإلزامية باستمرار فسيرتفع التضخم بشكل يصعب التحكم فيه بحيث نجد من يحصل على راتب قدره 15 ألف ريال يعد في مستوى الفقر، وبهذا سينعكس على الأسعار فقد يصبح رغيف الخبز بـ 50 ريالا. كما أن هذا التحول في نوعية النقود يصل تأثيره إلى الضريبة نتيجة حصول الناس على مبالغ عالية فسينتقلون إلى فئات ضريبة أعلى تدفع ضرائب أكثر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى يتحول جزء كبير من الطبقة الوسطى مع الوقت إلى فقراء حقيقيين رغم المبالغ العالية التي يتقاضونها لأنهم يظنونها أموالا بينما هي أوراق يحميها فقط اعتراف الدولة بها.
كما تواجه مجتمعنا مشكلة أخرى وهي الزكاة. فعندما يتضخم المبلغ في حسابات الادخار فهذا يتطلب دفع زكاة (زكاة المال) عليها، عندها يرى المدخرون أموالهم تأكلها الضرائب من طرف والزكاة من طرف آخر. لذا أظن هيئة السوق المالية لا تعلم عندما طرحت هذا البرنامج أن المفاهيم الاقتصادية قد تغيرت وأن الأموال التي يتم ادخارها ليست أموالا بقدر ما هي أوراق تطبع. ففي السابق كانت العملة التي يحملها الناس لها قيمة من الذهب أما الآن فهي عبارة عن ورقة خالية وخاوية لا تساوي الحبر الذي طبعت به ولم يبقها تتداول إلا اعتراف الدولة بها، وعندما تحتاج الدول إلى نقود فما عليها سوى طباعة المزيد من الأوراق (نقود إلزامية).
ولو افترضنا أن هدف برنامج الادخار ــــ الذي تنوي هيئة السوق المالية إطلاقه ــــ مبني على أهداف نبيلة وأن الهدف الأساس هو بالفعل تشجيع الناس على الادخار إلا أن وجود الأموال في وعاء واحد سيفيض الحساب ويرتفع الرصيد من الأموال التي هي للناس من أجل تشجيعهم على الادخار فقد تسول للهيئة الاستفادة من هذه الأموال فيتحول الوضع من الادخار إلى الاستثمار. بمعنى قد تطرح هيئة سوق المال برنامجا آخر استثماريا بناء على مدخرات المودعين. وبهذا يجد المودعون أنفسهم يقترضون من الهيئة من أموالهم المدخرة وتحصل الهيئة على رسوم وفوائد وغيرها. ويتحول الوضع من وعاء للادخار إلى وعاء للاستثمار أي أن المدخر يقترض من ماله الذي أودعه للهيئة.
عندها تتحول هيئة السوق المالية إلى مستثمر تقرض المواطنين من أموالهم عندما يفيض الحساب وتتكدس الأموال. ولا تقل لي إن هذا لن يحدث فقد حدث من قبل عدة مرات. فقد فعلها الاقتصادي جولدن سميث Golden Smith حينما كان الناس يودعون ذهبهم عنده لأمانته وبعد وقت وجد أنه لا يتم طلب تلك الودائع إلا بمعدل 20 في المائة والبقية (80 في المائة) تبقى لسنوات، عندها سولت له نفسه استثمارها (80 في المائة) ويبقى 20 في المائة كاحتياطي لمن يريد ودائعه. والقصة الثانية "برنامج مساكن" وهي قصة حاضرة في الأذهان أخذ دور البطولة فيها المؤسسة العامة للتقاعد عندما أظهرت لنا "برنامج مساكن" فأصبحت تقرض الناس من أموالهم (9 في المائة بدل تقاعد) بفائدة عندما تكدست عندها الأموال فتحولت من هيئة حكومية إلى مؤسسة مالية تبيع وتشتري وتستثمر.
نقلا عن الاقتصادية