اعتاد الانتهازيون على مر التاريخ، الخروج بالحوارات والنقاشات التي يدخلونها ويسمونها كذلك، باستخدام أسلوب تلفيق التهم لمخالفيهم مقرونة باستحضار النصوص النقلية، سواء أكانت نصوصا دينية أو غير دينية، في الوقت الذي لا يثبت ذلك الاستدلال أصل ما هو مطروح للنقاش، ولا يصح كدليل منطقي على الرغم من صحته النقلية، أي أنه خارج موضوع الحوار، بغية التدليس على الناس وإيهامهم بصدق ما ذهبوا إليه من تهم وأقوال، لا لشيء سوى لإثبات صحة طرحهم وخطأ الآخر، كخطاب عاجز عن رؤية عمق الموضوع المطروح للنقاش والحوار.
ومن تهم الانتهازيين الجاهزة اتهام المخالف لآرائهم الدينية بالليبرالية، والعلمانية، ومعاداة القيم والأخلاق، والعبث بقوانين الدولة وأمنها، ثم ليخلصوا إلى التكفير وما إليه من توابع، غير المبني على أية قواعد علوم شرعية مستندة إلى دراسات في الفقه الإسلامي، الممتد تاريخيا عبر الزمن منذ ظهور المذاهب التي جاءت نتيجة لانتشار الإسلام خارج دائرة الجزيرة العربية، ودخول ملايين الأعاجم فيه، فكان لذلك حاجة إلى علماء ومشايخ يوضحون للناس أمور الدين، وما استشكل منه على العامة.
بينما يذهب آخرون على الطرف الآخر بوصف خصومهم بالإرهاب والضلال والرجعية والتخلف وما إلى ذلك، ولا يتوانى الشكل الأول عن زخرفة أحاديثهم بدعوة اعتراضية، (بما يفتح الله عليه)، وإن كانت طيبة في شكلها، مثل، "الله يهدينا وإياه، والله يصلح لنا ولهم أمر ديننا ودنيانا"، وغيرها من الدعوات، إلا أن الهدف منها هو الاستحواذ على الجمهور المتابع، وجر تفكيرهم وعواطفهم إلى الجوانب الدينية، والهروب من متابعة تقديم الحجج العلمية الدقيقة، وهذا في الواقع من دلائل ضعف المحاور وانحراف الحوار، يذهب بالبعض إلى إنكار اهتمامات الآخر الدينية وتشويهه خارج إطار الحوار، وسعيه للوصول إلى نقاط توضح الأسس الصحيحة لما يختلفون عليه من حيث النظر لا من حيث الأصول، ويستحضر الشكل الثاني، مقولات الفكر العظيمة للتدليل على صحة ما يأتي به، مدعما أقواله بما حفظه من هنا وهناك، هو في الأصل قليل التطبيق لمعانيها وجوهرها في يومياته، وهو ما دأب عليه الانتهازيون في جدالهم مع خصومهم، متجاوزين قول الله تعالى "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وهو خطاب يحمل كل أسس الحوار المنطقي وفلسفته التي غيبها كثيرون عن حياتهم وثقافتهم.
فمن ناحية كان ظهور الفقه الإسلامي نتيجة حتمية لتعدد مدارس الفتوى وقراءة النصوص الدينية، على أوجه مختلفة للبت في مسائل الفروع وليس الأصول، كتب فيه من كتب من الأئمة المشهورين، كالإمام مالك الذي كتب "الموطأ"، والشافعي الذي كتب "الأم" و"الرسالة" على جزأين في بغداد ثم القاهرة، وغيرها من الكتب، ويطلق على الشافعي أبوالمذهبين، لتباين الفتوى لديه بين مكوثه في العراق ومصر، لكن بعضهم لم يكتب شيئا كأبي حنيفة، فقام طلابهم بجمع فتاواهم بعد وفاتهم، رحمهم الله، ليجمع ذلك فيما بعد، ويُعرف لاحقا بالفقه الإسلامي، بينما ظهرت الأفكار عبر التاريخ لإنارة الطريق الإنساني الحضاري، وتقديم ما يخدم البشرية وارتباطاتها بتغير مفاهيم الأشياء، لتحسين أداء الفكر والثقافة وفهم معنى التحولات المتلاحقة في حياة الإنسان، لا إلى استخدامها في تجهيل الخصوم ونفي معرفتهم.
هكذا بكل بساطة، يذهب البعض العاجز إلى إطلاق الأحكام، قبل أن يذهبوا إلى تهذيب منطقهم الحواري من التربص والاتهام، وتدعيم طرحهم بالعلم الفقهي بالأشياء، في محاولات مستميتة لإقصاء مخالفيهم، وهو ما يجعلهم خارج حسابات الحوار المنطقي نهائيا، إذ إن الهدف الأول والأساسي في ذهنيتهم هو إثبات خطأ الآخر بالدرجة الأولى، وليس تصحيح مفاهيم ومعلومات الآخر إن كان على خطأ، على أساس العلم والمعرفة، فيذهب هؤلاء إلى محاولات الإيقاع بخصومهم لا إلى تبيان ما لديهم من علم، مع أن أصل الفقه ما هو إلا المعرفة بأصول الأشياء وفروعها، وما يترتب على الاختلاف حولها.
نحن هنا أمام معضلة حقيقية في الوعي بماهية الحوار وأهدافه النبيلة، أفرزها الانتقاص من علوم المنطق والفلسفة والقيمة المعرفية، والجهل بآليات وأدوات الحوار، وماهية الفروقات بين مصطلحي الخلاف والاختلاف، وأول أخطاء الحوار المنطقي هو الاعتماد على المصادر غير الموثوقة، وعدم استخدامها في أماكنها الصحيحة، وبتغييب نقطة احترام الخصم تظهر أشكال متخلفة من اللغة الحوارية والغايات والأهداف المريضة، التي حين تخلص منها الفكر العالمي من حولنا، نجح في بناء مجتمعات نوعية، تحاول البحث عن الأمن والاستقرار والطمأنينة والتعايش، وارتقى بهم الفكر ليضعهم في مقدمة الأمم علميا وبحثيا وثقافيا.
نقلا عن الوطن السعودية