لا يمكن ولا يجب أن نراهن على التعليم والتأهيل والتدريب المهني والفني والتقني، ولا يمكن أن نراهن علىالتمويل الحكومي بأن يحدث الفرق في حياة الفقراء والعاطلين، ما لم تكن ثقافة مجتمع الفقراء والعاطلين بيئةحاضنة لنوعية المهن والحرف المستهدفة بالتمكين.
من الواضح أنه قد تم اختزال قضية الفقر والبطالة في مجتمعنا وحصرها واحتجازها منذ البداية في مفاهيمرأسمالية ضيقة بمعزل تام عن الفهم الصحيح للثقافات النفسية والاجتماعية للفقر والفقراء والبطالة والعاطلين.
من المؤسف أن مؤسساتنا المعنية باحتواء الفقر والبطالة؛ سواء أكانت حكومية أو غير حكومية وضعت الفقراءوالعاطلين في سلة واحدة بصرف النظر عن الاختلافات الثقافية بين الفقر والبطالة في الشمال أو الجنوب أوالشرق أو المدن أو الريف. فهذه المؤسسات تعتنق قناعة مؤداها أن الفقر والبطالة « َملة» واحدة، لا فرق عندهابين الفقر والبطالة في الرياض أو الفقر والبطالة في الجوف على سبيل المثال. ومن هنا جاءت وصفات علاجالفقر والبطالة من خلال مؤسسات مكافحة الفقر والبطالة دائما إما مسكنات ومهدئات على طريقة المراكزالصحية والعيادات العامة ووصفة البندول أو على طريقة العلاج بالكي «إن صابت أو خابت».
كثير من مشكلات مجتمعاتنا التي يطول مقامها بيننا ويستفحل حجمها وتأثيرها وتستعصي على الحل، بسبب أنالقليل من المسؤولين الحكوميين لا يؤمنون بالدراسات لأنهم يعتقدون أن المشكلة واضحة والحل واضح بناء علىقناعات سابقة أو استنادا إلى ما يطالب به الرأي العام في التواصل الاجتماعي، القليلون من المسؤولين الذينيعيرون الدراسات اهتماما يقعون في معضلة هيمنة باحثين معينين على الوزارة أو المؤسسة الحكومية ومراكزدراسات معينة متنفذة بعلاقاتها وتأثيرها، فتستنسخ نتائج بحوثها جيلا بعد جيل، وتطبخ توصياتها فتبنى علىأساسها صور نمطية تعممها على ظاهرة الفقر أو البطالة أو غيرهما في كافة مجتمعاتنا دونما اكتراث أو اعتبارللفروق الجوهرية بين مجتمعاتنا المحلية وثأثير ذلك على ثقافة العمل والاستثمار.
من غير المفهوم أن يتم رسم سياسات ووضع برامج تنموية في مجال التمكين التجاري، وتستهدف تلك البرامجالفقراء والعاطلين في مجتمعات زراعية، ثقافتهم زراعية. ومن غير المفهوم أن يتم رسم سياسات ووضع برامجتنموية في مجال التمكين الزراعي في مجتمعات ثقافتها تجارية وحياة أهلها قائمة على التجارة..إلخ. على أنالاستثناء أمر لا بأس به إذا كنا نتحدث عن بعض الأعمال التجارية الأساسية للسكان بجانب المهن والحرفالأساسية في المجتمع وثقافة المجتمع المعني.
أكثر ما لفت انتباهي في لقاء جمعني وبعض الزملاء الكتاب مع وزير البيئة والمياه والزراعة قبل أيام هو برنامجللتنمية الريفية الزراعية يعمل على تحقيق 12 هدفا استراتيجيا حتى عام 2025 ،بينها تمكين المزارعين في 12قطاعا هي: الورود والبن العربي والاستزراع السمكي والسمسم والذرة الرفيعة والعسل وعدد من محاصيلالفواكه.
من المتوقع أن يحقق هذا البرنامج عددا من الأهداف بينها توفير 43 %من احتياجات الغذاء في المناطق
المستهدفة، وتوفير 19 %من احتياجات الغذاء في المملكة، بالإضافة إلى تحقيق الممارسات الزراعية الجيدة،وضمان سلامة الغذاء ومطابقته للمواصفات الغذائية القياسية. ناهيك عن زيادة دخل صغار المنتجين من مزارعينوصيادين ومربيي ماشية، وتعزيز القدرة الشرائية للأسر الريفية. وأخيرا هذه السياسة ستحقق زيادة وتنوعابالإنتاج الزراعي المحلي، وتطوير محاصيل للتجفيف والتخزين لحالات الطوارئ. وقد تم التوصل لهذا البرنامج الواعد
استنادا للميزة النسبية لكل منطقة من مناطق المملكة، لذلك جاءت هذه القطاعات الإنتاجية موزعة على كثير منمناطق المملكة تبعا لتلك الميز النسبية.
هذا هو المدخل التنموي المدهش لأنه سيحقق مقولة «عصفورين بحجر»، في حل مشكلة الفقر والبطالةوغيرهما من المشكلات في كل منطقة من مناطق المملكة على حدة، بالإضافة إلى تحقيق أهداف غذائيةوصحية ومائية وبيئية في هذا المشروع الواعد.
لا يساورني شك بأن برنامج تنمية الريف الزراعي المنبثق عن توجهات رؤية 2030 ،هو بنك وخزان الفرص
الاستثمارية والفرص الوظيفية الأهم للشباب على المدى المتوسط والبعيد، وتحقيق الأمن الغذائي شريطة أنيتوسع البرنامج في استهداف التصنيع الغذائي والدوائي والنهوض بالصناعة الغذائية والتدخل في معادلةالتسويق الزراعي، بعد تاريخ من الزراعة التقليدية المتواضعة وبعد جيلين ممن هجروا مهنة الزراعة وهجروا الريفإلى المدينة.
غير أن ديمومة نجاح هذا البرنامج، تتطلب مساعدة الجامعات المحلية في بناء خبرة ومعرفة بمحاصيل ومنتجاتالمنطقة والميز النسبية التي تعمل بها الجامعة، لتكون مرجعا معرفيا علميا للمزارعين والثقافة الزراعية في تلكالمحاصيل.
أخيرا، أتساءل هنا لماذا لا يتم الأخذ بالميزة النسبية للموارد البشرية، بجانب الموارد الطبيعية؟ كذلك لماذا لاتتبنى وتتوسع كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية بمعايير وتصنيفات الميزة النسبية للموارد الطبيعية والبشريةالفردية والمجتمعية لكل منطقة من مناطق المملكة، وتوضع بموجبها برامج مكافحة الفقر والبطالة وبرامجالتمكين الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك من التمكين التنموي استنادا إلى التشخيص الصحيحوالواقعي؟
نقلا عن عكاظ