تجديد الفكر وعصرنته هو الأساس الذي تنبني عليه أفكار التجديد الأخرى، ومن غير المنطقي أن نغير الظاهر ويظل الباطن على حاله وندعي أننا غيرنا تغييرا حقيقيا.
منذ أن توسعت الدولة الإسلامية، ومعضلة التوجهات الحزبية الدينية تعصف بالعرب ، وفي العصر العباسي الذي نسميه العصر الذهبي، فقد تشعبت الأفكار والتف طوفان أطماع القوميات المجاورة حول الهوية العربية، فتغلغل الفرس والترك في أعماق الدولة الإسلامية حتى جوّفوها ثم قسموها إلى دويلات، ما سهل سيطرة العثمانيين عليها ردحا طويلا من الزمن، عاش العرب خلاله ظلمات بعضها فوق بعض، وحين سقطت دولة بني عثمان عادت الحياة إلى العرب وفق نظام عالمي حديث، أكثر استقرارا وعدلا رغم بشاعة بعض التفاصيل.
وهاهي الأفكار تعصف بالهوية العربية من جديد، فما يزال الفكر الإيديولوجي الرث يسيطر على الحزبيات العربية، ويسوغ امتداد الولاءات إلى قوميات الترك والفرس وإن وجد سبيل إلى المغول سيسلكه السالكون، فكثير من الشيعة يرون خلاصهم في طهران، ومثلهم الإخوان المسلمون ومن لف لفهم يرون الخلاص وبلوغ المطامع في اسطنبول، والإرهابيون ينصّبون رؤوسا جهالا من أي بلد، ويكسونهم عباءات ماضوية، ويغيرون أسماءهم ويظلون حولها عاكفين، وحول هؤلاء وهؤلاء مرتزقة يسوغون المسعى ويباركونه، وكل مكون من هذه المكونات العربية لا يرى بأسا أن تنطمس الهوية العربية وأن يمرغ أنفها في الوحل مادام يخدم فكرته المستمدة من أسلافه البعيدين في أمعاء التاريخ، ويكفي أن نتأمل (العراق/ سوريا/ لبنان/ ليبيا/ اليمن/ وقطر...) وثمة أماكن أخرى ما تزال النار فيها من تحت الرماد سيظهر لهبها حين تجد الفرصة المناسبة.
هؤلاء القوم انتهازيون باسم الدين، يلتف كل فريق منهم حول إيديولوجيا واحدة فقط، ويحاولون اقتطاف العربي من طينته، وزمانه، وزراعته في طينة مختلفة وماض سحيق، ولكل منهم رموزه الدينية (فقط) التي تحرك الدهماء بالخطاب العاطفي الموجه المستفيد من تنظيرات العالم الحديث حول موضوعات (الديموقراطية/ والأقليات/ والعدل والمساواة ...) مع الوعد بالسيطرة وتغيير العالم، حتى يدخلوا في عقيدتهم زرافات ووحدانا، وحقيقة الأمر أن خادع الدهماء مخدوع أيضا، وأن الراكب مركوب، فالفرس والترك يحققون النفوذ على حساب أطماع هذه الرؤوس الجوفاء، ومحاولاتهم المستميتة للإمساك بزمام الأمور، ظنا منهم أن الترك والفرس قد تخلوا عن عقيدة أسلافهم المحتالين الذين أطاحوا بالعباسيين قبل مئات السنين.
وعلى ما سبق، أرى أن تتحرك الدول العربية إلى سن تشريعات جديدة تحجم نفوذ الأحزاب القائمة على الأفكار المؤدلجة، فهم الوبال الحقيقي، وهم وقود جل صراعات العصر إن لم يكن كلها، فلو فتشت في كل قضية حية اليوم ستجد في أساسها فكرة مؤدلجة، ومشايخ يصولون ويجولون باسم الله ورسوله، وسيظل التفتت في الجسد العربي قائما إن لم تعدل الحكومات الدساتير والأنظمة بما يحجّم نفوذ هؤلاء فكريا، وفي بعض الدول عسكريا، ويقلل من مخاطر الأفكار الأيدولوجية والنزعات الماضوية المدمرة، فبالله عليكم إلى متى والأجيال العربية تجني الشوك والموت والدمار جراء (فتنة الصحابة) قبل أربعة عشر قرنا؟!
نقلا عن مكة