منذ أن وجد الإنسان على هذه البسيطة وهو في صراع، صراع مع الطبيعة من أجل البقاء، ومع الوحوش والزواحف، ومع الجوع والجهل والمرض، وأعتى الصراعات كانت مع أبناء جنسه من البشر، صراع على الماء والغذاء والأرض، صراع من أجل السيطرة والإذلال والاستعباد، صراع سيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. حب الخصام والانتقام غريزة إنسانية تبدأ مع الطفولة وتنمو مع الإنسان لتصبح هي المسيطر على كثير من العلاقات بين الأفراد والدول وبين أصحاب المناصب وزملاء العمل، وقد ركز عالم النفس فرويد في دراساته على تأصل غريزة العدوان والتدمير، وغريزة الحب والبقاء، لكن العاقل من يستطيع أن يتعامل مع هذه الصراعات بعقل وحكمة وبعد نظر، القائد الناجح هو من يستطيع أن يتجنب الصراعات بشتى أنواعها، والشخصية منها بشكل خاص، ذلك أنها تستنزف الكثير من الجهد الفكري والبدني، وتشتت جهود الآخرين داخل البيت والمؤسسة والدولة بشكل عام.

والعالم العربي يعيش اليوم واحدا من أصعب أيامه، ذلك أن ضعفه وتفككه أغرى الدول التي لها أطماع وطموحات أو تعيش على أوهام الماضي، بالتدخل والسيطرة، مستخدمة شتى الوسائل المتاحة، وأهم هذه القوى إيران ومحاولاتها تصدير الثورة، وتركيا بأطماعها التوسعية والحزبية والاقتصادية، وإسرائيل بوسائلها المتعددة وخططها بعيدة المدى لقضم المزيد من أراضي فلسطين.

كل هذا يجعلنا نزداد تمسكاً بالوحدة الوطنية، والتعاون مع الدول العربية الفاعلة من أجل الأمن القومي العربي، ومن أجل المزيد من التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي، والتعاون مع الدول الكبرى في سبيل الحصول على المزيد من التأييد السياسي والاستثمارات وفتح الأسواق لمنتجاتنا.

العالم العربي في هذا الوقت بالذات بحاجة إلى قيادة تنتشله من حالة التشتت والتفكك والانقسام، إلى آفاق أوسع من العمل العربي المشترك الذي أساسه التنمية والتكامل الاقتصادي المبني على الفائدة المشتركة لكل الأطراف، ومن ذلك الخطوات الآتية:

أولاً: العالم العربي بحاجة إلى قيادة قوية تستشرف المستقبل وتقدر الأخطار الداخلية والخارجية وتتخذ القرارات الصعبة في سبيل تفادي ما هو أصعب، لنتصور كيف سيكون اقتصاد المملكة لو لم تكن الرؤية 2030، والأهداف والبرامج، ولو لم تكن قيادة المملكة بهذا الحزم في مكافحة الفساد، هل سيكون الريال السعودي بهذه القوة؟ وهل ستستمر المملكة في إرسال الآلاف من أبنائها للدراسة في أفضل جامعات العالم كل عام؟ وهل كانت تستطيع أن تقوم بهذا الصرف السخي لحماية المواطن والمقيم من وباء الكورونا؟

قيادة المملكة بما لديها من مصداقية وخبرة وثقل هي القادرة على إحداث تغييرات إيجابية في العمل العربي المشترك بدءاً بإصلاح جامعة الدول العربية ومؤسساتها المختلفة، لتركز على التعاون الاقتصادي والعمل على انتشال الدول الأقل نمواً من براثن الفقر حتى لا تكون صيداً سهلاً للدول الطامعة في التوسع وبسط النفوذ مثل إيران وتركيا على سبيل المثال.

ثانياً: يجب أن تبنى العلاقات مع الدول المجاورة على التعاون وحسن الجوار وتبادل المصالح المشتركة، بشرط عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة عربية، ومحاولة حلّ كل خلاف بالوسائل السلمية ما أمكن ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يجب أن يكون برنامج ملء سدّ النهضة في إثيوبيا سبباً في توتير العلاقات بين الدول العربية وأثيوبيا، بل البحث عن حلول بناءة تتعاون فيه الدول الثلاث المعنية، وقد قرأت أن نصيب نهر النيل مما يهطل من أمطار على هضبة الحبشة لا يتعدى 5% فقط، إضافة إلى كميات هائلة من المياه تضيع في مستنقعات جنوب السودان، وهو ما يعني إمكانية البحث عن روافد تعوض كل ما قد تفقده مصر بسبب السد وربما أكثر بكثير. ويقال في السياسة "لولا وجود الخلافات لما كانت الحاجة لطاولة المفاوضات".

الدول الكبرى ومنها الصين وفرنسا تتجه بقوة نحو إفريقيا التي تشهد أكبر نمو سكاني لأغراض اقتصادية والبحث عن المزيد من الخامات الأولية والأسواق لبضائعها، ودولة إثيوبيا هي بوابة العالم العربي إلى إفريقيا.

قيادة المملكة بما لديها من خبرة ومصداقية وتأثير على المستوى العربي والعالمي وهي تقود اليوم الدول العشرين الأكثر ثراء تستطيع أن تبدد الكثير من السحب الداكنة التي تظلل أجواء العالم العربي وتجنبه العواصف والحروب، وتبحر به إلى برّ الأمان.