كنت أود الحدیث بإسھاب عن موضوع التكفیر في غیر ھذا الوقت، وأتناولھ من زاویة فكرة التكفیر، كبنیة معرفیة، وأحاول تتبع تاریخھا من بعد العھد النبوي، وحتى العصر الحالي،ولكن ما یحدث من تطرف، وتطرف مقابل في مسألة قبول الأحادیث النبویة وردھا، یجعلنيأعرض للموضوع بإیجاز، ولعل الباعث الرئیس لھذا المقال ھو الأمر الذي جعلني أستعیدأجواء المعارك التكفیریة التي كانت تتم في فضاء مفتوح، وعلى رؤوس الأشھاد، وقت سطوة الصحویین على المشھدین الاجتماعي والدیني في السعودیة، في التسعینیات، وسوف أشیر إلى بعض المسائل والأفكار حول ھذا الأمر:
ً أولا: یعرف بعض من عاصر تلك الفترة النكدة من تاریخنا الاجتماعي، أن فتاوى تكفیرلأعیان وأشخاص كثیرة خرجت ممھورة بأسماء مشایخ كبار في السن، لم یكتبوھا، وإنمااكتبھا تلامیذ مغمورون، تؤزھم دھاقنة السروریة والإخوانیة، ضد كتّاب ومفكرین، بل وضد مسؤولین أحیانًا، وبطبیعة الحال، لا یتم التكفیر أحیانًا بشكل مباشر، بل یلجؤون إلى القاعدة الموھمة، ویستخدمونھا بطریقة مضللة وخادعة، وھي مسألة (تكفیر الفعل، لا تكفیر الفاعل) ً خروجا عن مسألة تكفیر المعین، التي یجرمھا الفكر السلفي، بحسبان أنھا تحتاج إلى برھان من الله تعالى، وھذا متعذر بعد موت النبي صلى الله علیھ وسلم، أو أنھا تحتاج إلى تحقق شروط، وانتفاء موانع، ومسألة محاججة واستتابة، وإقامة حجة مفھومة وواضحة للطرف الآخر، وطریقتھم تلك ھي أن یقوم
أحد خصومھم بعمل ما، أو أن یصدر عنھ قول لا یعجب أولئك المتطرفون، فیعمدون إلى تكفیر ذلك القول، أو الفعل، الذي یعلم الجمیع أنھ صادر من فلان أو علان، وھنا لا یملك العقل الجمعي المجتمعي إلا أن ینصرف بكلھ إلى فلان القائل بذلك القول، وربما َّسرب ًخبرا من ھنا أو ھناك إلى أن المقصود فلان بعینھ.
ثانیًا: الیوم، تنحى أصحاب الصف الأمامي في معركة التكفیر، إما بسبب التوقیف والمحاسبة الأمنیة، أو بسبب إحناء الرأس للعاصفة -كما یعبر أھل الفكر الحركي- وتلقف الرایة من بعدھم أسماء وھمیة متطرفة تجوس خلال وسائل (الانفصال الاجتماعي) وعلى الأخص تویتر، ولا أشك أن ثمة من یدیر المشھد التویتري من داخل وخارج البلاد، والذي أصبح مشھدًا ً متأزما ً مأزوما، وكأنھا ساحة حرب بین أبناء البلد الواحد، والذي تستخدم فیھا أسلحة التكفیر والتخوین، على حد سواء.
ا: یعزى عنف جماعات التكفیر، وأسلوبھا في الإقصاء والقتل والقتال، إلى التعذیب والقمع اللذین طالا القیادات والأفراد من جماعة الإخوان ثالثً المسلمین في مصر جمال عبدالناصر، ومن ثم تم تصدیر، وصناعة ھذا الفكر والفعل ونشره عبر عقود في العالم، وھذا كلام ٍعار ً تماما عن الصحة،فعنف ھذه الجماعات الموجھ إلى المدنیین العادیین، أو المخالفین، أو العسكریین، قد نشأ على ید التنظیم السري لجماعة الإخوان المسلمین في الأربعینیات -وقبل عھد عبدالناصر- ودون سابق تعذیب أو قمع، وھذا یجعلنا نتیقن أن استخدام القتل والاغتیال والتفجیر نابع من فكر ھذه الجماعات في الأساس.
رابعًا: لا یتم القتل والاغتیال بالفعل المباشر أو بالتفجیرات، وتخریب مقدرات الأوطان المادیة والبشریة، إلا بوجود مبرر یسوغ ھذا الأمر، للمنفذ الذي غالبًا ما یكون على درجة كبیرة من الجھل، أو الحقد، وأكبر المسوغات، ھي الحكم بالكفر، والمروق من الإسلام، حیث یتم ً أولا نزع مسمى ا تكون الإباحة بدرجة الوجوب.الإسلام عن الفرد أو المجتمع، ثم إباحة نزع روحھ وانتھاك عرضھ ومالھ، وأحیانًا
ً خامسا: التكفیر بالمقام الأول ھو محاولة تعبئة ضد المجتمع أو ضد الفرد، تلجأ إلیھ جماعات الحاكمیة والإسلام السیاسي لإزاحة الخصوم أیًا كان نوعھم، عن طریق الوصول إلى أھدافھم، والتي من أھمھا مرحلیًا، تكثیر السواد، وتجمیع أكبر قدر ممكن من الأفراد المؤیدین والمناصرین تحت لواء الفكرة والتیار.
ً سادسا: تكمن عقدة التكفیر في لوازم التكفیر من أحكام، والتي تقع على الموصوم بالكفر، ومن ھذا یتضح أن ھناك ً أحكاما معینة تصدر على المكفر،او بحسب المنھج السلفي السني في ھذه المسألة، وھامتى ما ثبت علیھ الأمر وانتفت الموانع من تكفیره، وتحققت الشروط الموجبة للقول بكفره تعیینً
ھنا مسألتان فارقتان في غایة الأھمیة:
أن التكفیر حكم قضائي فحسب، ولا علاقة للفتوى بھ من قریب أو بعید، فتكفیر الأعیان یتم عبر القاضي، الذي یدرس ویحكم القضیة بحسب ملابساتھا، وظروفھا، وأي شبھ ھنا مھما كانت ضئیلة تحسب لصالح من اتھم بالكفر. ولو لاحظنا أن فرج فودة تم تكفیره ثم قتلھ بفتوى، وتمالاعتداء على نجیب محفوظ بفتوى، وتم قتل سیاسیین كثر أو محاولة قتلھم بسبب فتاوى، بل ارتدت ھذه الحربة إلى صدور أصحابھا، فقتل عبدالله عزام وجمیل الرحمن وأحمد شاه مسعود وغیرھم بفتوى تكفیر ومروق من الدین لفعل من الأفعال أو قول من الأقوال.إن منھج الاستتابة النبوي في حق الفرد، ھو منھج حوار متكرر ولعدة مرات، ولیس ً حكما إقصائیًا واجب النفاذ في التو والحال، كما تفعلھ جماعات التكفیر.
ا: إن (مسألة الأسماء والأحكام) التي تدرس في جامعاتنا الشرعیة الآن، وھي مادة مستقلة في كلیات أصول الدین، مسألة خطیرة والزلل فیھاثالثً كبیر وقریب، ولذلك یجب أن تصاغ بدقة، ویجب أن یسند أمر تعلیمھا للعلماء المعروفین بالعمق والتسامح، والأسماء المقصود بھا، أسماء: المؤمن والكافر، والفاسق، وغیر ذلك، والأحكام ھي ما یترتب على ھذا الأمر في الدنیا من الموالاة والمعادة، وإباحة الدم والمال، وغیر ذلك، وما یتعلق بأحكام الآخرة من الوعد بالنجاة، والوعید بالعذاب.
أخیرا، الحكم بالكفر أو الردة، اغتیال للحیاة، وحكم بالقتل، وإزھاق الروح، وھذا لایملكھا أي أحد من البشر
نقلا عن الوطن السعودية

