في اجتماع مجلس الأمناء الأخير لجائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد، أثار الشيخ عبدالرحمن السديس -عضو المجلس- مسألة: ماذا يتوجب على المسجد من الناحية التصميمية بعد جائحة كورونا؟ هذه الملاحظة أثارت كثيرا من التساؤلات حول ماذا يجب على المعماريين والمصممين أن يعملوا من أجل التعامل مع الجوائح والأوبئة؟ وكيف يمكن أن يكون المسجد عنصرا معماريا يساهم في تعزيز البيئة العمرانية الصحية؟ ربما تكون هذه الأسئلة مهمة وتسهم في تحديد ماهية شكل مسجد المستقبل، فعمارة المساجد بالنسبة لجائزة عبداللطيف الفوزان، ليست محدودة على الشكل البصري أو التكوين الفراغي للمسجد بل هي تخوض في مسائل تقنية عميقة تمس العلاقة المباشرة بين المكان ومستخدم المكان، أي المسجد والمصلي.

إذا ما التحولات المعمارية المتوقعة التي قد تمس شكل المسجد لا وظيفته الجوهرية كي يستجيب لظروف مماثلة في المستقبل لجائحة كورونا، ومن دون أن نضطر إلى إغلاق المساجد؟

العالم أجمع عاش فترة توقف المساجد عن الصلاة، لقد ترك ذلك شعورا بالغربة داخل الحي والمدينة، وربما لم يعِ الناس قيمة المسجد الاجتماعية والنفسية الحقيقية إلا بعد هذا التوقف الجبري الذي جعل الناس يسمعون الأذان ولا يستطيعون الذهاب إلى المسجد، شكّل هذا نوعا من العاطفة المحفزة على البحث عن حلول لتطوير أفكار للمسجد تجنبنا هذا الانقطاع في المستقبل، شعور الناس أن البيئة العمرانية ناقصة من دون الذهاب إلى المساجد سوف يشكل تحولا مهما في التصميم العمراني في المستقبل، فهذه التجربة العملية فتحت الباب على مصراعيه للتفكير بشكل مختلف عن السابق في المسجد كمجال حضري محرك للحياة في المكان الذي يوجد فيه، الإشكالية الكبيرة تكمن دائما في المقدرة على ابتكار حلول معمارية بسيطة مستقلة عن التقنية تسمح للمسجد كفضاء معماري بمواجهة الأوبئة من دون أن يتغير شكل استخدام المكان بشكل جوهري، ربما هذا يفرض تحديات كبيرة أتمنى من القراء أن يشاركونا في طرح بعض المقترحات حولها.

لقد وجدت أن ملاحظة الشيخ السديس تضع تحديات كبيرة أمام المعماريين والمهتمين بالتقنية، فالمسجد مكان لتجمع الناس، ووظيفته تعزيز ترابطهم، إنه مكان يتراص فيه الناس على شكل صفوف، ويفترض أن يسدوا الفرج ولا يتركوا أي ثغرات في الصف، فهو مكان ينبذ التباعد ولا يحث عليه، وقاعات الصلاة مصممة كي تعزز هذه الوظيفة، لكن المساجد في السابق كانت مفتوحة على البيئة الطبيعية الخارجية، والتصميم عبارة عن سقيفة توفر الظل مفتوحة على فناء مطل على السماء ولم تكن صناديق مغلقة، ورغم أن هذا الانفتاح لا يقلل من مخاطر العدوى إلا أنه كان من الناحية الصحية أكثر ملاءمة من قاعات الصلاة المغلقة، في واقع الأمر تصميم المسجد لمواجهة الأوبئة يشكل قضية معمارية عميقة يصعب إيجاد حلول لها لأن هناك تصادم بين المبادئ الوظيفية التي تقوم عليها صلاة الجماعة وبين فكرة التباعد، وفي اعتقادي أن متعة البحث تكمن في هذه الصعوبة والتحديات التي تفرضها، فنحن لا نستعجل الحلول ولكن يجب أن نفكر في المشكلة بصورة جدية.

ربما يكون مبدأ "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" أحد الأسس التي تفتح مجالات واسعة للتفكير، ولعل هذا المبدأ يمكن ربطه بالصلاة في الخلاء، وأفضلية صلاة الفرد في بيته، التي تجعل من المسجد ضمن عدة خيارات للصلاة، على أن الفكرة الأشمل التي تثيرها كل هذه الملاحظات هي "تبسيط عمارة المسجد" وجعله أكثر انفتاحا على الخارج والتركيز على التهوية الطبيعية كخيار صحي، رغم صعوبة تحقيق مثل هذه الأفكار في الوقت الراهن، كل هذه التصورات تجعل من مسجد ما بعد "كوفيد- 19" محيرا من الناحية المعمارية، ولعل العودة إلى المساجد التاريخية، التي كانت منتشرة قبل عقود قليلة وتمثل امتدادا لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، أحد الحلول الفراغية المبسطة الذي يمكن أن يمتزج بالتقنيات المتطورة لبناء جيل جديد من المساجد.

ما يميز التجريب المعماري والبحث العلمي هو القدرة على ابتكار الحلول، نحن أمام معضلة معمارية تتجمع فيها تحديات واضحة، فالمسجد مكان للحياة اليومية وليس للعبادة فقط، وفي الوقت نفسه يفترض ألا يكون مصدرا للعدوى في حالة الأوبئة، قد تساعدنا التقنية المعاصرة على التفكير بشكل مختلف، وقد توجهنا الكوارث والأزمات والأوبئة إلى حلول وأفكار لم نتوقع في يوم أن نفكر فيها، لكنها في كل الأحوال تحديات يفترض أن تثير مواطن خيال المصممين والمعماريين وتجعلهم يبتكرون حلولا خارج الصندوق، والمسجد يستحق أن نقتطع جزءا كبيرا من وقتنا واهتمامنا للتفكير فيه وتطويره.

نقلا عن الرياض