رأينا في مقال "سياسة الأفكار"، كيف أن تلقيح السلفية الحنبلية بالإخوانية لم يكن منسجما مع شروط التلقيح الفكري، وأنه كان الأَولى توليد فكرة جديدة من خلال التلاقي مع المذاهب السنية الفقهية المتفقة مع الحنبلية في الأصول المذهبية والاجتماعية، ولوجود الاستعداد للإصلاح في كلا الطرفين، فماذا عن تلقيح سلفيّتنا الراهنة بالليبرالية كما نادى بذلك بعض الكتاب في مقالات حَملَتْ عنوان مقالتي هذه لتوليد ما سموه "الليبرالية الإسلامية"، متصورين أنها الحل الأحكم اجتماعيا، وكأنهم يسيرون على طريقة الرازي الذي رأى أن مذهب الأشعرية أحْكم وإن كان مذهب السلف أسلم؟! وأوّل ما يُلحظ على تفكير هؤلاء الكتاب هو النمط التلفيقي الذي هو طابع العقل البليد عموما، فالليبرالية Liberalism فكرة لادينية Irreligion لها سياقها الفلسفي الخاص، والإسلام يتضمن إعلان الخضوع لله على وَفق الشريعة المحمدية، لكن العقل التلفيقي لا يشعر بالتناقضات! وجوابهم الحاضر دائما أمام هذا الاعتراض هو أن القرآن يقرر الليبرالية في آياته وأحكامه كقوله "لا إكراه في الدين" و"لكم دينكم ولي دين" ونحوهما، وهو استدلال يدل على اتصافهم بنمط فكري عبثي يضاف إلى نمط التلفيق، وهو اعتساف النصوص والشغَب حولها، فالآية الأُولى تفسِّر هذا التقرير بقوله بعده "قد تبيّن الرشد من الغيّ"، أي أنه لا بد من الدعوة حتى يظهر الإسلام ويتبين الرشد من الغي، لكن هؤلاء لا يعني لهم السياق شيئا، كما لا يعنيهم النظرُ في آيات أخرى كقوله "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" لمحاولة فهم معنى كل آية على ضوء سياقها الخاص، والآية الأخرى اسمُ سورتها "الكافرون"! أي أنها إعلان براءة، فيستحيل أن تكون تصحيحا لدين مخالف للإسلام أو إعراضا عن الاهتمام بالشأن الديني البتة على طريقة الفلسفة اللادينية! (المسماة خطأً: علمانية). نعم للإسلام حريته الخاصة الخاضعة لمقصد العبودية لله، في حين أن الليبرالية مبنية على فلسفة "الإنسانية" المضادة لفكرة الألوهية، أي أن فكرة الحرية في الليبرالية مضادة للحرية في الإسلام، لتَضادّ المقاصد الاعتقادية هنا وهناك.

إن أخطر مرض يمكن أن تصاب به سياسة الأفكار هو العجلة والمجازفة في مقام التريث والدراسة، خصوصا حين نكون بصدد تجديد شباب فكرة قد شاخت اجتماعيا وإن كانت قوية مبدئيا، كفكرة "السلفية" مثلا -راجع ما مضى في المقال السابق من التفريق بين صحة الفكرة منطقيا وفاعليتها اجتماعيا-، وهي الفكرة الأصولية التي يقوم عليها كياننا، فحينها يختلط في النظر غالبا الجوهريُّ بالشكليّ في الفكرة المراد تجديدها، فإذا مَلّ مَن بأيديهم إدارةُ الصراع الفكري مِن التأمل والدرْس للتمييز بين الأمرين فحينئذ يكون تجديدهم فرصة ثمينة يعزّ توفرها مرة أخرى عند ذوي الأقليات الفكرية الكامنة التي تبحث عن أيّ ثغرة لتفكيك الكيان القائم.

وحينئذ يكون "التجديد" أو "الإصلاح" كلمة خدّاعة قد تنقلب إلى فكرة مضادة للفكرة الأصلية التي يراد تجديد شبابها، فالكل يحاول النفاذ من هذا الباب ليجد له قدما في التأثير الاجتماعي تحت شعار "التجديد / الإصلاح"، وحين يتم هذا نكون بصدد "تلفيق" يضر بالفكرة الأصلية ولا يصلحها، كما حصل في الحضارة الغربية من خلال البروتستانتية الملفَّقة من الإسلام والكاثوليكية، وكما حصل في الحضارة العربية من خلال الأشعرية الملفَّقة من السُنّة والاعتزال، وكما يحصل الآن من خلال ما يسمى "الليبرالية الإسلامية" الملفقة من أفكار الأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية، تلك الأفكار الشاذة عن النمط الفكري العام، التي لكل منها منظومته الفكرية الخاصة، لكنها توحّدت ظاهريا تحت شعار "الليبرالية الإسلامية" ليجد كل منها موقعا لقدمه في الكيان الجديد الذي لا يقبل – بحكم مرجعيته السلفية – إلا ما كان إسلاميا. لكن مِن طبيعة الفكر التلفيقي الانسجام الظاهري بين عناصره المختلفة - وربما المتناقضة – ما دام في حالة مواجهة مع فكر سابق، ثم يبدأ في التفكك والصراع الداخلي حينما يستنفد مقاصده، كما حصل قديما في البروتستانتية التي انشقت إلى مذاهب عدة، وكما حصل أيضا في الأشعرية التي تفرعت إلى تيارات مختلفة، وهذا سيحصل – أو بدأ يحصل – في الحلف الليبرالي الذي يضم الإخوان المتلبرلين واليسار والليبرالية الصرفة والقوميين ومن تحزب معهم من ذوي الطوائف الدينية الأخرى، فمَن يرفع الآن شعار "الليبرالية هي الحل" إنما هو دجّال يبتغي النفاذ من باب "الإصلاح والتجديد" ليضع له نقطة تأثير في كيان سلفي قائم يمارس عملية تجديد اجتماعي لأصوله الصحيحة مبدئيا لكن أصابها ما يصيب أيّ كيان يمر بمرحلة حضارية جديدة تتطلب تطويرا يواجه به التحديات الجديدة.