أثيرت مجددا قضية التفاضل بين اللغات، وكالعادة من يثيرها ويستميت في محاولة دحضها، بحساسية مفرطة، هم أتباع اللغوي الأمريكي (نعوم تشومسكي) في العالم العربي. دائمًا يحاولون أن يتهموا المؤيدين لفكرة (التفاضل بين اللغات) بأنهم ضد: العلمية والمقاربة العلمية والمنهج العلمي، وأنهم يؤيدون التفاضل بين اللغات لأسباب تعود للعاطفة الدينية أو التحيز العنصري ضد اللغات الأخرى. فهم يستخدمون مفهوم العلمية بوصفها دعاية ضد المعارض، كي يقدم التفاضل بين اللغات وكأنه فكرة عاطفية متحيزة تضاد العلم. ونفي التفاضل بين اللغات مثل إثباته، فهم لا يملكون إثباتًا علميًا على عدم تفاضل اللغات. فالإثبات مثل النفي في هذه الحالة.

هل اللغات تتفاوت أو تتفاضل، وهل هذا التفاوت يتعارض مع العلم؟ إذا جعلنا قدرة اللغة على الوفاء بحاجات التواصل اليومي، فكل اللغات قادرة على هذا الغرض. هل كثرة الألفاظ في المعجم دليل على أفضلية لغة على أخرى؟ لغة الإشارة مثلًا قادرة على الوفاء بحاجات التواصل اليومي، ويمكن ترجمة أي خطبة سياسية بليغة أو محاضرة أدبية قيمة بواسطة لغة الإشارة، وهذا ليس سببًا كافيًا للقول إن اللغة الإنجليزية المنطوقة مثلًا لا تفضل لغة الإشارة.

سأتكلم بكل أريحية وبساطة دون استعمال مفهوم (العلمية) كدعاية مضادة، أو بروباغندا لإعطاء صورة سلبية عن أصحاب الرأي المعارض. نعم اللغات تتفاضل وهناك لغات أفضل من غيرها. ولا نحتاج معرفة كل لغات العالم للقول بأفضلية لغة على أخرى، ولا حاجة لإحصائية كاملة لأعداد الألفاظ والمصطلحات لكل لغة لتأييد فكرة التفاضل.

يقول المستشرق الألماني (يوهان كريستوف برغل) في كتابه «القهر والسلطة» متحدثًا عن جمال اللغة العربية: «وبالفعل فإن اللغة العربية لغة عجيبة حقًا. فهي تبدو من الناحية الأولى عجيبة في بنيتها الزخرفية المنتظمة التي تحدد سمعيًا التراكيب المجردة للفن الإسلامي ذي الطبيعة الموجية المتكررة. كما أنها من الناحية الأخرى تبدو عجيبة في الكم الكبير من إمكانات التعبير فيها، ومن ضمن هذه الإمكانات -وهذا مهم بشكل خاص لبحثنا- غناها بصورة غير عادية بوسائل التعبير عن كلمة المقدرة وهذا ليس فقط على الصعيد الدلالي وإنما على الصعيد النحوي». كلام برغل هنا - وهو باحث أكاديمي متمكن - يخلو من العاطفة الدينية أو العنصرية ضد اللغات الأخرى، ولم يتحذلق أو يتشدق بالعلمية لطرح هذا الحكم بجمال اللغة العربية، لأنه ببساطة اطلع على مجموعة من الأعمال الأدبية الرفيعة في التراث العربي، واكتشف الجوانب الفنية الإبداعية في اللغة. وهذا كل ما يحتاجه الباحث النزيه غير المتحذلق بالدعاية العلمية والمقاربات العلمية، فالموضوع بسيط ولا يستدعي هذه الحساسية المفرطة.

في أدب الشعوب الرفيع - وتحديدا الشعر - يمكن للقارئ العادي - غير المتخصص - أن يكتشف الجوانب الفنية الجميلة في أي لغة، وكل ما يحتاجه القارئ ذائقة فنية رفيعة للوصول لجماليات اللغة التي تميزها عن غيرها من اللغات. ففي العربية مثلًا نجد الثراء العروضي الكبير الذي يعطي الشاعر الحرية في تنويع أنغامه الشعرية وتوزيعاته الموسيقية، فهذا الثراء مدين لطبيعة اللغة ونظامها الداخلي وليس لقدرات الشاعر وإمكانياته، هذا الثراء يقابله فقر عروضي في اللغة الإنجليزية - مثلا - يقلل من خيارات الشاعر ويضطره أحيانًا للهروب من قيود العروض والبحث عن التجديد في الشكل وإيجاد أشكال شعرية جديدة كالشعر الحر والشعر المرسل.

حضرت محاضرة قيمة في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، لمستشرقة أوروبية مهتمة بأبي العلاء المعري وخاصة ديوانه الإعجازي «لزوم ما لا يلزم»، كانت تتحدث متعجبة من قدرات المعري الشعرية حين ألزم نفسه بذاك الشكل الشعري المعقد. ويكاد يخفى على المستشرقة أن المعري يحمل في دواخله أهدافًا مبطنة لم يصرح بها وأعطى القارئ حرية البحث عنها. فاللزوميات بشكلها المعقد التزم المعري في قافيتها على أن تكون على حرفين أو ثلاثة، وأن تشمل قصائده كل حروف اللغة العربية، فقسم لزومياته تبعًا لحروف المعجم ولكل حركة إعرابية. وهذا المسلك التعجيزي في ميدان هندسة الشكل الشعري يتطلب لغة ذات إمكانيات خاصة لزيادة العنصر الترنمي والموسيقي في لزومياته من خلال توظيف مختلف أشكال المحسنات البديعية، فلم يبرح ضربًا من ضروب البلاغة إلا وصبه في قوالب إبداعية فريدة، فيسهل على المعاني والألفاظ الوصول لأعمق مناطق الشعور الإنساني بطريقة موسيقية وإيقاعية.

نموذج آخر من الأدب العربي الرفيع وهو (أدب المقامات)، ولعل أشهرها مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري. والمقامة جنس أدبي يجمع بين البلاغة والإبداع القصصي، وتتضمن جملة من فنون اللغة من سجع وطباق وبديع، مع ما يتخللها من تلاعب بالألفاظ والاشتقاقات، واستعمال الغريب من المفردات، والكتابة بطريقة إيقاعية ذات جرس موسيقي خلاب، تتطلب لغة ذات إمكانيات خاصة وبنية اشتقاقية ذات مرونة عالية. فالآداب الرفيعة عند الشعوب كفيلة بالكشف عن الجوانب الفنية في اللغة التي تتطلب ذائقة فنية رفيعة عند القارئ للحكم بأفضلية لغة على أخرى، ولا أظن هذا الجهد يتطلب مختصًا في اللسانيات أو داهية زمانه في المقاربات العلمية. فالمسألة جمالية بحتة، متعلقة بالذائقة الفنية التي يمكن أن يملكها أي شخص عادي مهتم بالشعر وفنون اللغة.