دو الصورة في كوالالمبور، حيث انعقدت القمة الثانية بين دول مجلس التعاون الخليجي ورابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان»، مُحمّلةً بالرمزية والتطلّعات نحو مستقبل اقتصادي مُشترك ومترابط، يعيد صياغة معادلة جديدة للشراكات العالمية في عصر التحولات الكبرى. في هذه المرحلة لم تعد التحالفات التقليدية كافية لتأمين سلاسل الإمداد وتعزيز النمو الاقتصادي، بل باتت الشراكات المتجددة القائمة على مصالح اقتصادية استراتيجية هي الحل الأقدر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
هذا ما أدركته بوضوح دول الخليج و«آسيان» خلال قمتهما في العاصمة الماليزية كوالالمبور، بعدما استشعرت المنطقتان ضرورة تنويع شراكاتهما وإيجاد بدائل لسلاسل الإمداد التقليدية، التي شهدت هزات اقتصادية عديدة خلال السنوات الماضية. لقد مثّلت تلك القمة إشارة قوية إلى رغبة الطرفين في إعادة هيكلة تعاونهما الاقتصادي وتوسيعه في مجالات لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي سابقاً.
منذ القمة الأولى التي عُقدت في الرياض في أكتوبر 2023، برزت بوضوح الأهداف التي يسعى إليها الجانبان، خاصة في ما يتعلق بتعزيز تكامل الأسواق الإقليمية، وتحقيق الاستدامة البيئية، وخفض الانبعاثات الكربونية، وتعزيز التحول الرقمي والشمولية الاقتصادية التي تشمل الشركات الصغيرة والمتوسطة، واليوم، تأتي القمة الثانية لترسم خارطة طريق واضحة وواقعية لهذا التعاون، من خلال إطار تعاون مشترك ممتد من عام 2024 حتى 2028، يتضمن خطوات عملية تُلبّي تطلعات وأولويات الطرفين في مختلف المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
اللافت في هذه الشراكة هو التوجه الاستراتيجي نحو إجراء دراسة مشتركة لجدوى اتفاقية تجارة حرة محتملة بين الخليج و«آسيان»، بما يمكن أن يُغيّر بعمق طبيعة العلاقات التجارية والاستثمارية بينهما، هذه الخطوة وحدها كفيلة بفتح آفاق جديدة، لا سيما أنها تأتي في وقت تسعى فيه دول العالم إلى تأمين بدائل لسلاسل الإمداد التقليدية، وتنويع مصادر السلع والخدمات الحيوية.
وتبدو فرص التعاون بين الجانبين مُغرية ومتعددة الأبعاد، فهناك مجالات تتصدر قائمة الأولويات، مثل التمويل الإسلامي، والأغذية الحلال، والتقنيات المالية، والسياحة، وهي قطاعات تتمتع كل من دول الخليج ودول آسيان بخبرات وقدرات كبيرة فيها. هذه الفرص تتعاظم أهميتها مع التحديات الاقتصادية العالمية، حيث لم يعد خيار التنوع الاقتصادي مجرد رفاهية، بل ضرورة تفرضها المتغيرات الدولية الراهنة.
كذلك فإن توجه الجانبين نحو تعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد الرقمي يفتح أبواباً واسعةً أمام الابتكار والنمو المستدام، فالحديث عن الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والمدن الذكية، وحوكمة البيانات، ليس مجرد حديث عن المستقبل، بل هو واقع اقتصادي جديد فرض نفسه بقوة على المشهد العالمي. وإذا نجح التعاون بين الخليج وآسيان في هذا المجال، فقد يُشكل نموذجاً عالمياً يُحتذى به في بناء شراكات متقدمة قائمة على الابتكار والتكنولوجيا الحديثة.
وتأتي قضية الطاقة لتضيف بُعداً آخر لهذه الشراكة الواعدة، فكلا الجانبين لديه مصلحة مشتركة في استثمار مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، مثل الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية. الخليج يمتلك البنية التحتية ورأس المال والخبرة في قطاع الطاقة التقليدية والجديدة، في حين تتمتع «آسيان» بتنوعها الجغرافي والموارد الطبيعية والبشرية والتكنولوجية، ما يجعل التكامل في هذا القطاع أمراً منطقياً وعقلانياً.
إلى جانب ذلك، فإن التركيز على تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في المنطقتين، من خلال منصات التفاعل والتنسيق الجديدة، مثل البعثات التجارية ومنتديات رجال الأعمال، من شأنه أن يُسهم في إزالة العوائق التقليدية، ويعزز الثقة والشفافية في التعاملات التجارية، ما يُمهّد لمزيد من التدفقات الاستثمارية، ويساعد على خلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً ووضوحاً.
كما أن التوجه نحو دراسة الربط الجغرافي بين المنطقتين عبر شبكات السكك الحديدية والطرق، وإشراك القطاع الخاص في هذه المشروعات، يمثل خطوة استراتيجية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية عميقة، يمكن أن تُعيد تشكيل الجغرافيا الاقتصادية بين المنطقتين.
ولا يمكن إغفال الدور المتزايد لصناديق الثروة السيادية الخليجية والآسيوية، التي باتت تلعب دوراً محورياً في تعزيز الاستثمارات المشتركة. ومن هنا، فإن بناء شراكات بين هذه الصناديق سيُسهم بشكل كبير في تعزيز قدرة الطرفين على تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، تقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة.
هكذا يتحول التعاون بين الخليج و«آسيان» إلى ضرورة استراتيجية ومستقبلية تفرض نفسها، وتضع الجانبين أمام مسؤولية بناء نموذج اقتصادي مبتكر، قادر على مواجهة التحديات العالمية الراهنة والمستقبلية. إن العالم يمر حالياً بلحظة فاصلة، تفرض على الجميع إعادة تقييم التحالفات الاقتصادية والسياسية ودول الخليج و«آسيان» اليوم أمام فرصة تاريخية لرسم ملامح هذه المرحلة، وتقديم نموذج قادر على البقاء والتوسع.
هذه هي اللحظة التي يمكن فيها للطرفين أن يتحولا من شريكين اقتصاديين إلى صانعين حقيقيين للمسار الاقتصادي والسياسي العالمي المقبل. إن استثمار هذه الفرصة والتقدم بثبات في هذا الطريق، سيكون بلا شك القرار الأذكى في عالم تتسارع فيه المتغيرات وتتزايد فيه التحديات، وتبرز فيه أهمية العلاقات الخليجية الآسيوية كخيار استراتيجي ذكي ينبغي على الجانبين التمسك به والمضي قدماً في تعزيزه بكل ما يملكانه من قدرات وإمكانات.
