تحدثنا فى آخر مقال عن دور الحرب كمحفز للإبداع والابتكار.. وقلنا إنها تفرض على العقول العمل بأقصى طاقاتها، وتفجر المواهب بكافة تخصصاتها، وتساهم في تطوير تقنيات كانت تحتاج لقرون لتصل الى ماوصلت إليه..
ومرة أخرى لا أحد يمجد الحروب أو يمتدح التدمير وإزهاق الأنفس، ولكن التاريخ يثبت ان الحروب التي تبيد البشر وتدمر الممتلكات تعود لاحقا لإنقاذ حياة الملايين من خلال تقنيات طبية وعلاجات فعاله ظهرت خلالها. أما الاختراعات والأجهزة التي كانت حكرا على المجهود الحربي فسرعان ماتنزل للأسواق وتصبح في متناول المستهلك العادي بثمن بخس …
أما في المركز الثاني فيأتي (غزو الفضاء) كأفضل ظرف محفز للابتكار وتشكيل التقنيات الجديدة. فالفضاء بيئة شاذة وله ظروف فريدة واقتحامه يتطلب حلولا غير موجودة على الأرض. أضف لذلك ان الرحلات الفضائية لاتقوم إلا بمجهود حكومي ضخم يتطلب تعاون كم هائل من العقول المبدعة، ورصد ميزانية ضخمة للجانب العلمي - لا يمكن أن يقوم فيه مخترع أو عالم أو مبدع وحيد !!
وحين انطلقت أبولو11 نحو القمر عام 1969 تساءل البعض عن الحكمة من صرف ملايين الدولارات من اجل ان يمشي رجل واحد على سطح القمر (!!) واليوم مازال البعض يثير مثل هذه التساؤلات ويرى ان بناء المرافق العامة ومساعدة المعتازين أجدى وأولى. غير ان الرحلات الفضائية (بجانب الاعتزاز القومي والتنافس الروسي الأمريكي) حققت مكاسب لاتحصى للجانب المدني. فجميع الابتكارات والاكتشافات الطبية استخدمت لاحقا لخدمة المستهلك العادي. وكل رحله تنطلق نحو الفضاء تتساقط منها مئات الافكار التي تلتقطها المصانع والمؤسسات بالمجان.. برنامج أبوللو للهبوط على القمر وقف خلفه أكثر من 40 ألف اختراع جديد.. واليوم يوجد في امريكا وحدها اكثر من 500 شركة (يبلغ اجمالي مبيعاتها اكثر من 42 بليون دولار) تنتج سلعا تم تطويرها أساسا لرحلات الفضاء - ويقدر الخبراء أن تكنولوجيا الفضاء وفرت خلال الأربعين عاما الماضية أكثر من 30 ألف سلعة جديدة !!
وأذكر أن وكالة الفضاء الامريكية قد أقامت معرضا في مدينة هيوستن عرضت فيه سلعا تجارية اعتمدت على ابتكارات قدمتها مجانا للصالح العام. وكان أجمل مافي المعرض قسم يعرض تكنولوجيا" طازة" يتوقع نزولها للأسواق بعد وقت قصير.. ومن التقنيات الفضائية التي نزلت للمستهلك العادي: السبائك فائقة المرونة التي تصنع منها النظارات غير القابلة للكسر، والجهاز القارئ للأسعار (في السوبر ماركت) والمادة المضادة للخدش (التي يطلى بها الزجاج) والماسح الضوئي، وجهاز كشف الانقطاع في الكابلات (بشتى أنواعها) والدرع الأسود الذي يحمي مقدمة المكوك (الذي يمكن استعماله في الطائرات التجارية) وكاميرا تنظيم الصور المتتابعة، وكاشف الحريق في البيوت ... بالاضافة الى عشرات الأدوات والأجهزة البسيطة التي صنعت خصيصا لمساعدة رواد الفضاء كالدباسة وسماعة الأذن و"الدرل" الذي ثقب صخور القمر!!
اما في الجانب الطبي فيقدر ان تكنولوجيا الفضاء أنقذت حياة الملايين من خلال تقديم ابتكارات وتقنيات ظهرت أساسا لأقلمة الرواد مع بيئة الفضاء الشاذة أو علاجهم عن بعد/ ومثال ذلك جهاز غسيل الكلى الذي يعيد تدوير فضلات الرواد ومنظم ضربات القلب- ناهيك عن التجارب الطبية التي تمولها شركات الأدوية ولا تنجح إلا في معزل عن الجاذبية !!
... حبيب قلبي؛ راجع التاريخ لتكتشف أن أكسل شعوب العالم وأقلها ريادة هي التي لم تمر بحروب مصيرية ولا برامج فضائية واقتصرت مساهمتها في استهلاك منتجاتها الثانوية !!
نقلا عن الرياض