من أجل أن تستقيم القراءة – لهذه المقالة – لا بدّ من ضبط دال عنوان المقالة بشيءٍ من إيجاز:
* الجماعات: أيّا تكن ألقابها؛ إذ لست حفيّاً بما تخلعه تلك الجماعاتُ عادةً على نفسها من ألقابٍ دأبت على أن تُزكي بها مشروعيتها على نحوٍ مبالغٍ فيه بينما الله تعالى «هو أعلم بمن اتّقى»!!
وهي في الغالب أشتات جماعاتٍ ذات راياتٍ «عُميّة» يكتنفها جملةٌ من غموضٍ يتعسّر – بادي الرأي – الكشف عن أسباب نشأتها، وليست «الاستخبارات» حينما تُعمل ذهنك في منأىً عن تكوينها ثّم السهرُ تالياً على رعايتها حقّ الرعاية، وإذا ما انتهى دورها (المسرحي) نوشك أن لا نجد لها أثرا!!
وهذه الجماعات – التي تتوجه إليهم هذه الكتابة – هم في – الشام مثلاً – ممن وفدوا إليها؛ إذ أتوها من كلّ فجّ عميقٍ – بطريقة أو بأخرى – لستَ تدري معها كيفَ سُهّلت لهم السبل فأتوها من كلّ حدبٍ ينسلون يتجاوزون بذلك حدودا عليها حراسٌ شدادٌ غلاظ..!؟ وبهذا القيد يخرج «أبناء البلد» ممن يبلون بلاء حسناً في الدفاع عن أنفسهم وأهليهم وأعراضهم وكراماتهم.
* ولئن آثرتُ الاستعمال لمفردة «المقاتلة» بحيث استعضت بها عن مصطلح «المجاهدة» ابتغاء الإبانة عن أنّ «الجهاد» بابٌ واسعٌ، يأتي «القتال» بوصفه فصلاً من هذا الباب «العظيم/ الجهاد»، وبهذا المعنى تضافرت النصوص الشرعية قرآنا وصحيح سنة وليست – المقالة هاهنا – موضعا لبسط تلك النصوص.. ويمكنك أن تتتبّع لفظتي «الجهاد» و«القتال» في القرآن ليتبيّن لك ما قد خفي على كثيرين ما أحدث اضطراباً في المفاهيم لشعيرة «الجهاد».. وحسبك أنّ «القتال» كان اسماً – آخر – لإحدى سور القرآن الكريم بينما لم نظفر لـ «الجهاد» من اسم.! والذي يعنيني هاهنا أنّ حصر مسمى «الجهاد» وقصره مِن ثَمّ على محض «القتال»، وتحميل دال النصوص الشرعية عليه إنما هو ضربٌ من تحريفٍ بيّنٍ للمصطلحات الشرعية عن مواضعها الأصلية/ الصحيحة.!
ولست هاهنا مفتئتاً حين الجزم بأنّ من كانوا على مثل هذا الوصف الذي ذكرته آنفاً يمكن أن يُنتظر منهم أن (يعزّوا ديناً أو أن يصنعوا نصراً)، ذلك أنّ لهم في كلّ أرضٍ كان فيها «صراع» موطئ قدمٍ/ وتجربة «قتالية» فاشلة/ ومرذولة؛ إذ ما فتئوا يُلحقون بـ «المسلمين» الأذى تلو الأذى، وما لبثوا أن طال ضرّهم «أهل ذلك البلد»، بله تجاوزهم إلى تلك البلاد التي إليها ينتسبون ومنها قد جاؤوا.. هذا الجزم حين نُحاكمهم إلى «الواقع» الذي نشهد تفاصيله أيامنا هذه أما حين تكون محاكمتهم إلى «الشريعة» فسيتبيّن لك أنّي بالمقالة هذه لم أتألَّ على الله تعالى – وحاشاني ذلك – وحسبي أن تجاسرتُ على ما لم يقل به من هو أولى به منّي..
وبإمكانك استيضاح ذلك من خلال هذه المجملات:
* إنّ من أجل مقاصد الشريعة العظمى جمع كلمة أهل الإيمان على «الحق»، والسعي إلى تأليف القلوب، والتوكيد على الأمر بلزوم الجماعة وشدّة النكير تحذيراً من الفُرقة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»، قال البغوي في «معالم التنزيل»، «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة»، وشأن «الجماعات المقاتلة» كما هي عليه اليوم ليس هو «الفرقة والاختلاف» وحسب، وإنما تجد أهل البلد ممن ابتلوا بحاكم «طاغية» كالحال التي عليها «سوريا» اليوم أو ممن ابتلوا بغزوٍ سافر كما كانت عليه «أفغانستان» من ذي قبل؛ إذ تجدهم على أحسن حال في «قتالهم»، ثُم ما إن تأتي إليهم تلك «الجماعات المقاتلة» إلا وتدبّ فيهم الفرقة، ويكون «الاختلاف» العنوان الأبرز لتلك المرحلة، ويكثر الهرج والمرج فيما بينهم، مؤذناً بالفشل وذهاب الريح وتكون الغلبة عليهم.!
* قال تعالى «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» قال الإمام مالك «فأيّ كلامٍ أبين من هذا»، ويعلق الشاطبي عليه بقوله «فرأيته يتأولها لأهل الأهواء»!
* وفي سورة الأنعام يقول تعالى «إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون»، وليس أظهر من هذه الآية في الإبانة عن أن الله تعالى يأمر بالاجتماع والائتلاف وينهى عن التفرق والاختلاف، ومن أجل هذا كان القول – جزماً – بامتناع تحقق نصرة/ أو فلاحاً او انتظاره من لدن مَن كانوا أسباباً مباشرةً في صناعة «الفرقة والاختلاف» على ما نراها في كثيرٍ من تلك الجماعات المقاتلة في سوريا/ وفي سواها!
وإلى هذا المعنى يشير الشاطبي؛ إذ ينقل عن جملة من أهل العلم مقالتهم المسدّدة «ظاهر القرآن يدل على أنّ كل من ابتدع في الدين بدعةً من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية (إن الذين فرقوا دينهم…)؛ لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شِيعا»!
وليس بخافٍ على أيّما أحدٍ أنّ هذا الذي نقله الشاطبي إنما هو ديدن «الجماعات المقاتلة»؛ إذ عليه يحيون، وبه يتنادون، وعليه يموتون!
* وما صحّ من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة هي أكثر/ وأشهر من أن أذكرها.. ويُنظر في ذلك «حديث حذيفة بن اليمان، وحديث ابن مسعود، وحديث أبي ذر»؛ إذ جاءت كلها تفصيلا لما قد تلوته قبلاً من الآيات المحكمات.
ولضيقٍ في المساحة أكتفي بما يلي:
* النصر له شروطه، وما لم تتوافر الشروط انتفى بالضرورة وقوع النصر «..إن تنصروا الله ينصركم..»، وهل في الفرقة التي أضحت اليوم سمةً على «الجماعات المقاتلة» نصرٌ لله؟! حاشا وكلا.
* لئن ابتغيت أن تعرف أسباب الافتراق/ والتنازع فابحث عن «الغلو» وحبّ «الرئاسة»، وهذا هو السوس الذي ينخر في كيانات هذه «الجماعات المقاتلة» ويجعلك في ريبة من أمرها.
* أتحدى أن تجد – في مناطق الصراع – تنازعاً قائما على أشدّه إلا ومن خلفه تكمن «الجماعات المقاتلة»؛ إذ يسعى قادتُها – في الغالب – إلى الظفر بكسوبات «دنيوية» من حبّ رئاسة/ ووجاهةٍ/ وحظّ من مال وسواه!! ولا تسأل بعدها عن عنفوان التنازع الذي يُفضي إلى استحار القتل فيما بينهم في حين يُلبّس فيه «خواصّهم» على «دهمائهم» القول: إنّ مردّ هذا التنازع إنما يأتى لجملةٍ من أسبابٍ «شرعيّة»، بينما عند التحقيق يظهر التزييف/ والبطلان، ويهتك الله ما ستروه، وذلك بأن اختلافهم/ وتنازعهم وما ينشأ عنه من تكفير وتقتيل ليس له أدنى علاقة بسببٍ شرعيٍّ معتبر، وإنما هو الانحراف عن المنهج الحق استدلالا وتأصيلا، وما كان منهم من سعي حثيث للدنيا!
* فالفشل إذن وذهاب الريح وعيد «قرآني» لمن كان هذا شأنهم «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، ولذا فمَن يتطلّب نصراً أو عزاً لدين من هؤلاء كمن تتطلّب من ثلجٍ جذوة نار.!
* وإذا ما رأيت «الجماعات المقاتلة» وليس من شأنها غير الاحتفاء «بأسماء قادتها» والاشتغال على الانتصار لها تحزباً/ وانتماءً؛ إذ يوالون عليهم/ ويُعادون، فاعلم حينئذ أنها «جماعات» على غير هدى – ولا صراط مستقيم – ذلك أنّ الغلو في الأشخاص تقديساً لهم على النحو الذي نشهده أيامنا هذه في تلك الجماعات المقاتلة/ وغيرها لهو من أبرز أسباب إشاعة «الفرقة» والانحراف بـ «القتال في سبيل الله» عن جادة ما جاءت به الشريعة. وبهذا المعنى قال ابن تيمية». الانتساب إلى جنس معين من أجناس بعض شرائع الدين كالتجند للمجاهدين والفقه للعلماء والفقر والتصوف للعباد.
أو الانتساب إلى بعض فرق هذه الطوائف كإمام معين أو شيخ أو ملك أو متكلم من رؤوس المتكلمين أو مقالة أو فعل تتميز به طائفة أو شعار هذه الفرق من اللباس من عمائم أو غيرها كما يتعصب قوم للخرقة أو (اللبسة)، يعنون الخرقة الشاملة للفقهاء والفقراء أو المختصة بأحد هذين أو بعض طوائف أحد هؤلاء أو لباس التجند أو نحو ذلك.
كل ذلك من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة، وأهلها خارجون عن السنة والجماعة داخلون في البدع والفرقة، بل دين الله تعالى: أن يكون رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو المطاع أمره ونهيه المتبوع في محبته ومعصيته ورضاه وسخطه وعطائه ومنعه وموالاته ومعاداته ونصره وخذلانه».
وأختم بقول ميمون بن مهران «إياك وكل شيءٍ يُسمّى بغير الإسلام».

نقلا عن الشرق السعودية